تقارير “المحاسبة”



خلود الخطاطبة

في السنوات الماضية، كان يكتفى فقط، بالمظاهر الدستورية لتسليم تقرير ديوان المحاسبة السنوي لرؤساء السلطات، لكن لم يكن هناك محاسبة فعليا لما يرد فيه، ولم يسمع الشعب الأردني يوما بإنه تم إحالة أي متورط في التعدي على المال العام بموجب ما يرد في التقارير الى النائب العام، بمعنى أن كل هذا المجهود الذي يبذل سنويا لا يتعدى كونه مجموعة أوراق للتوثيق ولا يبنى عليها قرارات أو تعديل في السياسات المرتبطة بالجهات المخالفة.
ولم يكن الجمهور آنذاك مطلعا تماما على ما يرد في التقرير أو تفاصيله، ولم يكن محتواه هام لوسائل الإعلام الحكومية أو شبه الحكومية، بفعل سياسة التكتيم والتعتيم، حتى جاءت الصحف الاسبوعية في التسعينيات وبعدها المواقع الإخبارية لتلقي الضوء على ما يرد فيه من تجاوزات، لكن الحال استمر على ما هو عليه، الاكتفاء بالمراسم الدستورية لتسليمه، مع بعض التصريحات الإنشائية حول الفساد وأهمية مكافحته.
في هذه الأيام الأمر مختلف تماما، فما فتيء التقرير يصدر حتى كانت تفاصيله على صفحات التواصل الإجتماعي ، وأضحى كل أردني على إطلاع بمستوى استهتار البعض بالمال العام والتعدي على ما يتم تحصيله من ضرائب المواطنين التي من المفروض أن توجه لخدمته وليس لخدمة المسيئين والمبذرين والمتطاولين.
المقصود في هذا الجانب، لو أن السلطات الرسمية تعاملت مع هذا التقرير بجدية منذ عقود لما كان الوضع وصل الى ما هو عليه، ولما استمر التقرير في رصد حجم هائل من التجاوزات في صفحات تفوق الخمسمئة، ولم يتجرأ مسؤول على القيام بإصلاحات لدورة المياه بقيمة تتجاوز الستة آلاف، ولم نكن نرى هذا الحجم من الرواتب، في وقت أدخلت فيه الحكومة الوطن والعباد في أزمة تاريخية لتعنتها في إقرار زيادة رواتب المعلمين.
للإنصاف، فإن اهتمام الحكومة بما ورد في التقرير هذه المرة وتشكيل لجنة لدراسته والتعامل مع ما ورد فيه، خطوة تسجل لها، لكن عليها في ذات الوقت أن تسارع لاستعادة المال المنهوب وتحويل كل من تورط بشكل مقصود وسوء نية للتطاول على أموال الناس، فيما يجب ان تعيد دراسة تشريعاتها وقوانيها لضبط حالة الإنفلات في الهيئات المستقلة وجهات محددة فيما بتعلق بحجم الرواتب الفلكية التي لا تتناسب أبدا مع ما تحققه تلك الجهة أو العاملين فيها واستثماره لتوزيعه بعدالة على رواتب موظفي القطاع العام الذين يشهدون تآكلا في دخولهم لا مثيل له منذ عقود.
عندما نتكلم عن الفساد، يجب أن تتضح جديتنا في مكافحة مظاهره، وأعتقد أنه لا يوجد تقرير موثق ودقيق وعلمي لرصد التجاوزات على المال العام والادارة في الدولة، بقدر تقرير ديوان المحاسبة السنوي، الذي وجد كجهاز رقابي بموجب الدستور، هدفه ضبط عملية الإنفاق العام والتأكد من أوجه الصرف وتوافق القرار الاداري مع التشريعات والقوانين، على أن السلطة التنفيذية والتشريعية هي من أوكل لها دستوريا التعامل مع هذه التجاوزات وديوان المحاسبة يقف دوره فور إعلان التقرير.
اعتقد أن التعامل بجدية مع تقارير ديوان المحاسبة السنوية، تجاوزات ومخالفات هو بيان لمدى جدية الحكومات في محاربة الفساد، ذلك أنه يوثق ويسجل ولا يغفل تفاصيل، فيما اذا استمر التعامل معه بذات العقلية التي انسحبت عند الحكومات السابقة، فإن المخالفات ستستمر وسيسمح لآخرين بالتعدي على أموال الشعب ما دامت العقوبة غائبة، وهو ما حدث للأسف على مدى عقود سابقة، إلا من رحم ربي.
نتطلع الى اليوم الذي يصدر فيه تقرير ديوان المحاسبة بصفحات لا تتجاوز الخمسين مثلا، توثق في أغلبها لسوء القرار الاداري، وليس التمادي في هدر المال العام، وذلك لن يكون إلا بإحالة جميع من يثبت تورطه بأي شكل من أشكال الفساد الى النائب العام، واتخاد قرارات وإجراءات حكومية وإعادة النظر بالرواتب الفلكية وجدواها وتعديل تشريعات تحول دون الاستمرار في تلك التجاوزات، وإلا ما الفائدة من وجود مؤسسة وطنية بهذا الحجم تمول أيضا من المال العام.