اهتمام أميركي بغاز شرق المتوسط ... وتركيا الخاسر الأكبر
فيما كانت واشنطن غارقة في عطلتي عيد الميلاد ورأس السنة، أقر الكونغرس بغالبية حزبيه قانون دعم استخراج الغاز وتثبيت أمن واستقرار شرق المتوسط، وخصص لهذا الغرض مبلغ مليار دولار لدعم عمليات التنقيب، فيما أصدرت القيادة الأوروبية في الجيش الأميركي تعليمات لتعزيز انتشارها في البحر الأبيض المتوسط.
وفي السياق نفسه، وافق الكونغرس على فرض عقوبات على أنابيب الطاقة التي كانت موسكو تسعى إلى مدها إلى أوروبا، وأحدها عبر تركيا.
يشرح مسؤول أميركي لـ«الراي» السياسة الأميركية شرق المتوسط على الشكل التالي: «تشير التقارير إلى أن شرق المتوسط غني بالغاز، وان استخراجه يمنح أوروبا، القريبة، فرصة ذهبية للاستغناء عن الغاز الروسي». ويضيف: «باستغناء أوروبا عن الطاقة الروسية، تتقلص قدرة موسكو على ممارسة النفوذ على الأوروبيين، وتتراجع واردات الحكومة الروسية، ما يجبر حكومتها على التعاون مع المجتمع الدولي والسعي إلى العودة إلى الاقتصاد العالمي».
وكانت الولايات المتحدة فرضت عقوبات اقتصادية، أدت إلى اهتزاز الاقتصاد الروسي، على إثر قيام موسكو باحتلال شبه جزيرة القرم الأوكرانية في العام 2014. الاستغناء عن الطاقة الروسية بطاقة بديلة من المتوسط دفع موسكو إلى محاولة عرقلة عمليات الاستخراج في هذه المنطقة.
وتعتقد مصادر أميركية أن روسيا تسعى إلى تأجيج الصراعات في حوض المتوسط، بما في ذلك بين تركيا وجيرانها، وبين لبنان وإسرائيل، وهو ما من شأنه تعطيل عمليات تنقيب واستخراج الطاقة، وهو مجهود روسي تسعى أميركا اليوم للتصدي له، وذلك عن طريق تقديم دعم عسكري لتثبيت الاستقرار، وفي إدارة ديبلوماسية للتوفيق بين الأطراف المالكة قانونيا للطاقة.
وفي هذا السياق، تأتي زيارات المسؤولين الأميركيين المتكررة إلى بيروت، والتي كان آخرها زيارة وكيل وزير الخارجية ديفيد هيل، قبل أسبوعين، في محاولة التوصل إلى تسوية تسمح للبنان وإسرائيل ببدء استخراج وضخ الطاقة وبيعها إلى أوروبا، وهو ما لا يريد الروس حدوثه.
ويبدو أن أولى بوادر الديبلوماسية الأميركية، تحالف متوسطي يضم حتى الآن إسرائيل واليونان وقبرص ومصر والأردن، وهو تحالف يجد نفسه في مواجهة مع تركيا، التي تعادي كل واحدة من هذه الدول، وتحاول التلويح بأنها مستعدة لاستخدام القوة العسكرية لتثبيت حقوقها في طاقة المتوسط.
على ان تركيا هي الخاسر الأكبر في «لعبة الكراسي الموسيقية» في حوض المتوسط، يقول المسؤول الأميركي. ويوضح أن لتركيا مساحات قد يتم اكتشاف مخزونات من الطاقة تحتها، ما يعني ان تركيا وروسيا تتنافسان على استخراج وبيع الطاقة إلى أوروبا، ما يشير إلى أن مصلحة أنقرة، هي في الانضمام للتحالف الذي ترعاه أميركا، ووقف الأنابيب الروسية إلى أوروبا، والتوصل إلى تسوية مع دول المتوسط الأخرى، وتثبيت الوضع الأمني حتى تقوم شركات الطاقة بإنتاجها وتصديرها، مع ما يعني ذلك من مردود مالي لكل هذه الدول.
السؤال هنا، يتابع المسؤول الأميركي، هو «بموجب أي استراتيجية يرتمي (رئيس تركيا رجب طيب) أردوغان في أحضان موسكو، ويواجه أميركا وحلفاءها في المتوسط؟ فمصلحتنا نحن وتركيا مشتركة لاستخراج الطاقة، فيما مصلحة تركيا وروسيا متضاربة، إذ أن موسكو ترى في فورة الطاقة شرق المتوسط تهديداً لصادراتها من الغاز إلى أوروبا».
ويعتقد بعض المسؤولين الأميركيين أن أردوغان قام بشراء منظومة الدفاع الصاروخية الروسية «اس - 400»، بتكلفة بلغت مليارين ونصف مليار دولار، اعتقاداً منه أن ذلك سيشتري له دعما روسيا في مواجهة خصومه في المتوسط. لكن تطور الأحداث أظهر أن موسكو لم توقف دعمها لخصوم أردوغان في حوض المتوسط، بما في ذلك دعمها لحكومة طبرق الليبية المناوئة لحكومة طرابلس، حليفة أردوغان.
وشراء أردوغان المنظومة الروسية، لإرضاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين - الساعي دائما لتقويض حلف شمال الأطلسي وبعثرة أعضائه وتركيا منهم - كلفت أنقرة، علاوة على المال الكثير، علاقاتها العسكرية مع الولايات المتحدة، التي طردت أنقرة من برنامج صناعة مقاتلات «اف 35» المتطورة، ودفعت الكونغرس إلى إقرار سلسلة من العقوبات عليها، وهي عقوبات تنتظر قيام الرئيس دونالد ترامب بإقرارها، وهو أمر غير مرجح في الوقت الراهن.
في الوقت نفسه، ستحصل اليونان على «اف 35»، إلى جانب إسرائيل التي تسلمت دفعة منها. وسيقدم الأسطول الأميركي السادس، وقيادته في إيطاليا، الدعم لهذه الدول والحماية لشركات التنقيب.
وكانت قبرص منحت شركة «ايني» الإيطالية حقوق التنقيب في مياهها الإقليمية، إلا أن تركيا أرسلت بحريتها، ففرّ الإيطاليون، وتوصل القبارصة اليونانيون لاتفاقية تنقيب مع شركة «اكسون» الأميركية، وعندما أطلّت البحرية التركية لطرد الأميركيين، لم يكترثوا للأتراك وواصلوا تنقيبهم.
هذه الصورة تشي بأن دخول الأميركيين - كشركات طاقة وعسكر وديبلوماسية وكونغرس - على خط التنقيب وإنتاج الغاز شرق المتوسط، يعني أن الدول المشاركة في التحالف الذي تدعمه واشنطن، سينجح في إنتاج وتصدير الغاز، فيما سيكون من الصعب على روسيا منع هذا التحالف من تصدير الطاقة، وسيكون الطريق الوحيد المتاح أمام الأتراك هو بالتخلي عن أوهام التلاعب على أميركا باسترضاء روسيا.
وعلى الرغم من الحماية السياسية التي يقدمها ترامب لأردوغان والوقاية لتركيا من عقوبات اقتصادية، إلا أن هذه الحماية لا تكفي لتجعل من تركيا لاعبا مشاركا في عملية إنتاج وتصدير الغاز إلى شرق أوروبا، ما يعني أن الطريق الوحيد هو في تخلي أنقرة عن سياستها الحالية، ومحاولة استرضاء التحالف المؤيد لواشنطن. عدا عن ذلك، ستجد أنقرة نفسها، مثل دمشق وبيروت، تهدد بالحروب، فيما دول شرق المتوسط الأخرى منشغلة باستخراج الطاقة والإفادة من عائدات مبيعاتها.