أبو رمان يكتب: أبعد من مقتل الخليفة

نشر وزير الثقافة والشباب السابق، الدكتور محمد أبو رمان، مقالا هاما عن تنظيم داعش الإرهابي ودلالات مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي.
وتاليا نص المقال:
تأخذ النقاشات والحوارات الراهنة عن انهيار دولة داعش، أو ما أطلق عليه التنظيم مسمّى "دولة الخلافة"، ولاحقاً مقتل "الخليفة" (أبو بكر البغدادي)، طابعاً عسكرياً وأمنياً بالدرجة الأولى، فيما لا نذهب بالنقاش إلى الجانب الأكثر أهمية، في ظنّي، وهو ما يتعلّق بالدلالات والنتائج على الصعيد الشعوري، الرمزي والفكري بعيد المدى. شئنا أم أبينا، قدّم "داعش" نموذجاً حيّاً، وإنْ كان انتقائياً، لخطاب أيديولوجي ساد لدى حركات إحيائية إسلامية، يرتبط باستعادة مفهوم "الدولة الإسلامية"، في صورتها التاريخية، وادّعاء تطبيق الشريعة الإسلامية، وفق رؤيةٍ فقهيةٍ تاريخية أيضاً، وطبّقها التنظيم، على طريقته الخاصة، بصورةٍ مغلقةٍ وحادّة، لكنّه استدعى المفاهيم الرئيسة التي كانت تحكم الخطاب الإسلامي ردحاً كبيراً من الوقت.
بالضرورة، أغلب الحركات الإسلامية وفصائل الإسلام السياسي المتنوّعة دانت التنظيم وطريقته في فهم الإسلام، وتطبيق مفهوم "الدولة الإسلامية"، واعتبرته دموياً ومارقاً، بل هناك من اعتبره امتداداً للخوارج. وفي المقابل، ترجم التنظيم أفكاراً وأراء فقهية كانت موجودة بقوة في الساحة الإسلامية، ونجدها في "المدونة الفقهية" الموروثة، وداعبَ حلم عشرات آلاف من الشباب العربي ممن عاشوا ينتظرون إقامة دولة "اليوتوبيا الإسلامية"، وكثير منهم سارعوا إلى اللحاق بالتنظيم في "الأرض الموعودة"/ أو المزعومة، وآخرون أيّدوه في بلدانهم، ما يؤشّر على نجاح التنظيم في "اختطاف" هذه المشاعر والأفكار إعلامياً ورمزياً. بمعنى أنّ "النموذج التاريخي" الذي قدّمه "داعش"، ونبع من كتب الفقه والفكر، وأريد تطبيقه على أرض الواقع بصورة حادّة، فشل تماماً، ليس لأنّه تمّت هزيمته عسكرياً، بل لأنّ التطبيق العملي أثبت أنّ هذا النموذج لا يمكن أن يعيش في عالم اليوم، فضلاً عن أنّه لم يكن أصلاً موجوداً في الواقع، إلاّ في "المخيال الإسلامي المتشدّد".
صحيح أنّ التنظيم ذهب إلى أبعد مدى متطرّف في الترجمة الواقعية لمفهوم "الدولة الإسلامية". ولكن علينا ألا نتجاهل أيضاً أنّ النماذج الإسلامية (أو التي تدّعي ذلك) في العالم اليوم أيضاً هي الأخرى لم تقدّم نماذج ناجحة، سواء تحدّثنا عن النماذج التي اعتمدت الشرعية الدينية، مع صبغة دكتاتورية، أو النموذج الديمقراطي الديني (على حدّ تعبير محمد خاتمي) في إيران. وتكمن المفارقة، إذن، في أنّ "داعش" الذي جاء ليطبق نموذجاً متخيّلاً لم ينته فقط، بل أنهى هذه "اليوتوبيا" والمفاهيم التي قامت عليها، وفتح الطريق أمام مسارٍ آخر كانت حركات إسلامية عديدة قد بدأت تخطّه في مجال الديمقراطية، لكن بتردّد وبشد عكسي كبير إلى الخلف، خشيةً من إعلان مواقف واضحة وصريحة تجاه القبول النهائي بالديمقراطية، وإعادة تعريف مفهوم الخلافة والدولة الإسلامية بمنظور عصري جديد، وما يتبعه ذلك من إعادة تعريفٍ جريئةٍ لدور الدين في الحياة العامة، والتمييز بين المجالين، العام والخاص، ما يعني إعادة هيكلة الأيديولوجيا الإسلامية بصورة جذرية، كما فعل حزب العدالة والتنمية التركي قبل قرابة عشرين عاماً، أو كما نراه اليوم في ملامح ما تسمى حركات "ما بعد الإسلام السياسي" التي قرّرت فصل الدعوي عن السياسي، والاقتراب أكثر من النموذج الديمقراطي التعدّدي في الحكم.
على الطرف الآخر تماماً من المعادلة، لا يعني فشل "داعش" نهاية الإسلام السياسي تماماً، أو مبرّراً لإقصائه، لأنّ التجربة العملية أيضاً أيّدت أنّ عملية الإقصاء تؤدّي إلى تقوية هذه التيارات، بل ودعم الخط المتشدد منها، كما يوضّح مارسي غوشيه، في كتابه المهم "الدين في الديمقراطية"، وهو من المؤرّخين والفلاسفة الفرنسيين المميزين.
إذا استبعدنا النماذج السابقة؛ إسلامي تاريخي- أيديولوجي، الديمقراطية الدينية، الدكتاتورية الدينية، العلمانية الإقصائية للدين، فإنّ الخيار الذي يمكن أن يبقى، وأن ينجح في إيجاد الحلقة المفقودة، هو النموذج الديمقراطي الذي يأخذ الدين بالاعتبار، ويقدّم صيغةً ممكنةً من التعايش بعيد المدى، أو التسويات التاريخية التي تسمح للمؤسسات والشعائر والثقافات الدينية بالاستمرار والفعالية، وفي الوقت نفسه، توفر مساحاتٍ ديمقراطيةً ومدنيةً وعلمانيةً تتواءم مع روح العصر والتطور.
مثل هذا النموذج معزّز بكمّ كبير من الدراسات والنظريات والأفكار المهمة، منها كتاب غوشيه "الدين في الديمقراطية"، ومنها ما أشار إليه صموئيل هنتنغتون في كتابه "الموجة الثالثة" أنّ التجربة الأوروبية نجحت في إيجاد المعادلة بين الديمقراطية والدين، سواء من خلال البروتستانتية، ثم الكاثوليكية (خصوصا مع الموجة الديمقراطية الثالثة، التي تحولت معها أغلب الدول الكاثوليكية إلى الديمقراطية)، وكتاب نادر هاشمي "الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية"، ويقدّم فيه طرحاً مهماً عن التجربة التاريخية الأوروبية التي لم تنجح إلا بعدما مرّت في عملية الإصلاح الديني، وجعلت العامل الديني جزءاً من الدفع باتجاه الديمقراطية. ويمكن أن يضاف إليهم كتاب ناثان براون "المشاركة لا المغالبة"، والذي يتحدّث عن تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية، ويقارنها بالتجربة الإسلامية الراهنة، وبالطبع قبل ذلك كله كتاب توكفيل عن الديمقراطية الأميركية.
مع ذلك، في أثناء استعراض هذه المقاربات، أحد أهم المحدّدات يتمثّل في السياق الاقتصادي - الاجتماعي والثقافي والسياسي، فتطوّر الفكر والخطاب ليس قراراً أو موقفاً شخصياً أو جماعياً، بل هو مرتبطٌ بشروطٍ تدفع إلى الأمام، فنجد مثلاً في كتاب "قوى الثروة الصاعدة"، لفالي نصر، تركيزا على دور الطبقة الوسطى المتدينة المعولمة كمفتاح للمستقبل في العالم الإسلامي. ونجد في كتاب نوّاف القديمي إضاءة على أهمية الواقع والممارسة في تطوير الفكر والخطاب الإسلامي، وكذلك الأمر في ملاحظات آصف بيّات، وغيره من السوسيولوجيين، إشارات إلى تحول في مفهوم التديّن نفسه من الأيديولوجي الجماعي إلى الفردي والروحاني، وهي حالةٌ شبيهةٌ بما ذكره غوشيه في إعادة تصميم المعادلة بين الديمقراطية والدين، والتمييز بين المجالين، العام والخاص، وترسيم دور الدين المجتمعي والثقافي، وما سماه "الحياد الديمقراطي".