عمق استراتيجي من عبد الناصر إلى السيسي
أثيرت خلال الأعوام الأخيرة عدة أسئلة حول ما إذا كانت مصر قد نجحت مصر في استعادة إفريقيا بمثابة عمق استراتيجي لها، سواء بعد ثورة يونيو 2013، أو في اللحظة الراهنة؛ حيث تتراوح العلاقات بين ملفات تعاون وثيق وخلافات عميقة من قبيل سد النهضة مع إثيوبيا.
يمكن الجزم بأن مصر قد خطت خطوات جذرية في سياق إعادة ضبط المسافات من القاهرة إلى غالبية أو كل العواصم الإفريقية، والمؤكد أن الفضل الأكبر في هذا الإطار يعزى إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي والذي أعادة تقييم المشهد، وتحدث في زمن ترشحه للرئاسة المصرية عن استعداده للذهاب إلى أعقد نقطة تتشابك فيها العلاقات المصرية الإفريقية، أي اثيوبيا من جراء ازمة مياه النيل.
ولعل من ينظر إلى الفعاليات التي شهدتها العاصمة المصرية القاهرة في 2019 أي في سنة ترؤسها للاتحاد الإفريقي، يجد أن القاهرة قد احتضنت أكثر من عشرة مؤتمرات إفريقية على أراضيها.
ورؤية مصر في هذا السياق ليست عشوائية أو انفعالية بل تقوم على أساس برنامج الاتحاد الإفريقي 2063، وبرنامج الأمم المتحدة 2030، وتمضي في نحو 19 مجالا حيويا على أرض الواقع، وتتمايز أنشطة التعاون بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي.
وإن ما جرى ذكره، يستدعي طرح علامة استفهام حول أهمية القارة السمراء بالنسبة لمصر والمصريين، وعمن أدرك أهميتها عبر التاريخ؟
ولا يتسع المقام للعودة الى العلاقات المصرية الإفريقية في أزمنة مصر الغابرة، لا سيما الفرعونية، وقد كانت لمصر مملكة مترامية الأطراف تصل إلى حدود "بونت" حيث خليج عدن الحالي، ثم اهتم باني مصر الحديثة الوالي الألباني الاصل محمد علي بالقفز إلى مصادر نهر النيل، وصولا إلى المملكة المصرية المشرفة على مصر والسودان.
وإذ تركنا عالم الجغرافيا، العلامة جمال حمدان ونظرته العميقة والاستراتيجية لجذور مصر الإفريقية، فإننا نجد أنفسنا أمام قامتين مصريتين أدركتا باكرا أهمية إفريقيا بالنسبة لمصر.
أما الأول فهو الدكتور بطرس غالي، الأمين العام السابق للأمم المتحدة والذي يكتب في مذكراته الشخصية أن أول رحلة سمح له والده الباشا الأكبر بالقيام بها في حياته كانت إلى السودان، وليس إلى أوروبا ولا أمريكا.
وحين سأل بطرس عن السر أخبره الاب عن أهمية أن تتفتح عينه على القيمة والأهمية الكبرى التي تمثلها إفريقيا للمصريين ولحياتهم، وعليه لم يكن غريبا في وقت لاحق أن يتجه اهتمام بطرس غالي الأول والأكبر طوال عقود خدمته في الدبلوماسية المصرية، صوب إفريقيا، والأفارقة هم الذين رشحوه لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة.
أما العقلية المصرية الثانية التي رسخت لديها أهمية إفريقيا، فهي الصحفي والكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، والذي أشار أكثر من مرة إلى أن أمرين يمثلان أمن مصر القومي ولا مجال للتهاون فيهما؛ وهما " مياه النيل "، و"الوحدة الوطنية على أرض مصر بين الأقباط والمسلمين "، وبديهي أن مسالة مياه النيل تتقاطع مع العمق الإفريقي طولا وعرضا، وشكلا وموضوعا.
ويمكن القول إن العلاقات المصرية الإفريقية مرت بثلاث مراحل؛ الأولى في زمن عبد الرئيس المصري السابق، جمال عبد الناصر، حيث ساند الثورات التحررية وبلغت الدبلوماسية المصرية شأنا عاليا في ذلك الوقت، وحققت مصر مصالح استراتيجية في العمق الإفريقي.
ثم جاء مرحلة الرئيس أنور السادات والذي انشغل كثيرا بمعركة تحرير الأرض ثم معركة السلام، وقد آمن الرجل بأن أوراق اللعبة برمتها في يدي الولايات المتحدة الامريكية أو 99 في المئة منها على الأقل، ومع وصول الرئيس مبارك بدأت العلاقات تفتر شيئا فشيئا، إلى أن جاءت محاولة اغتياله في أديس أبابا في يونيو 1995 ليتوارى الملف الإفريقي عن اهتمامات مصر الرسمية.
وبعد الثلاثين من يونيو 2013، بدأت مصر استفاقة حقيقة تجاه العالم الخارجي، وفي محاولة ناجحة لضبط المسافات مع بقية عواصم العالم، أولت القيادة السياسية، وعلى رأسها السيسي أهمية كبرة لإفريقيا، والمحلل المتابع المحقق والمدقق لخطابات الرجل يجده يؤكد مرارا وتكرارا على اعتزاز مصر بانتمائها الإفريقي.
وباتت العلاقات مع دول القارة السمراء مرتبة ومتقدمة على أجندة صانع القرار المصري، وهذا الأمر تجلى في مشاركة السيسي في قمتي الاتحاد الافريقي بغينيا الاستوائية وأديس أبابا، فضلا عن الجولات الإفريقية التي قام بها رئيس الوزراء المصري السابق، المهندس ابراهيم محلب إلى دول إفريقية، واستنهاض الهمة المصرية في إقامة المشروعات الحيوية للأفارقة مثل سد تنزانيا.
تبعا لذلك، كان من الطبيعي إذن أن تتحول القاهرة، وفي غضون خمسة أعوام إلى قلب جديد للقارة الافريقية، ربما يضاهي وينافس جنوب إفريقيا، ولا يكاد يمر شهر من شهور السنة من دون زيارة رئيس إفريقي أو مسؤول كبير لمناقشة خطوط التعاون الثنائي مع مصر، وعادت الأكاديميات العسكرية والأمنية المصرية محجا لكبار ضباط القوات المسلحة، وقوات الشرطة من كافة الدول الإفريقية.