طاهر المصري: لست ممن يقفزون من سفينة الحكم

أكد رئيس الوزراء السابق، طاهر المصري، أن المطالبات بتغيير النهج واستعادة الولاية العامة التي يرفعها الناس منذ سنوات هي مطالبات بريئة من أي خبث أو نوايا سلبية أو أغراض شريرة، بل إن غرضها دفع عملية التقدم في الأردن إلى الأمام، وتعزيز المؤسسية.

وأضاف السياسي المخضرم والرئيس السابق لمجلس الأعيان خلال ندوة بعنوان (شهادة سياسية) أقيمت في منتدى عبدالحميد شومان، الاثنين، وحضرها جمع غفير من السياسيين والمسؤولين السابقين، إن تطبيق مفهوم الولاية العامة هدفه تحصين الملك وحمايته من أي أخطاء ترتكبها السلطة التنفيذية، بالاضافة إلى كونه مبدأ دستوري راسخ.

وفي تعليقه على شعار "استعادة الولاية العامة" الذي يرفعه الناس، شدد المصري على أننا في هذه الظروف العصيبة أحوج ما نكون إلى تحصين رأس الدولة وإلى وجود قيادات قوية وكفؤة.

وأشار إلى موقفه ورأيه في الربيع العربي عام 2011، مستعرضا جزءا من رسالة بعث بها إلى الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، أكد فيها أن الحكومات تأتي بمنهجية تسيير الأعمال وعقلية وظيفية مجرّدة، وظهور ما يُسمّى مراكز القوى والمتنفذين.

ولفت المصري إلى أن حديثه اليوم لا يأتي ليُثبت للناس أنه ليس الانسان الذي أكل الاستبداد روحه، وليس من النخب السياسية التي تقفز من سفن الحكم من دون اعتبار لعقل المواطن الأردني والعربي العادي.

وأشار إلى أن الملك الراحل، الحسين بن طلال رحمه الله، أراد بتكليفه تشكيل الحكومة في صيف العام 1991، أن يُعلن أنّ هناك بدايةً لتغييرٍ جوهري في الحكم والنهج.

وتاليا نصّ كلمة المصري التي استعرض فيها عدة مفاصل في حياته السياسية، وموقفه من بعض الملفات والقضايا:

طاهر المصري
في
شَهادةٌ سياسيّةٌ
____________

مؤسسة عبد الحميد شومان
يوم الاثنين
20 يناير 2020

الساعة السادسة والنصف

بسم الله الرحمن الرحيم

أسعدَ اللهُ مساءكم جميعاً بالخير والبركة..

وإذ أشكر لمؤسسة شومان هذه المبادرة الجريئة واللافتة؛ فإنّني آمل أن تُراكمَ هذه التجربةَ، مع زملائي رؤساء الوزراء السابقين وشهاداتهم السياسية،جُهداً وطنيّاً وفكريّاً، يصلح لللإفادة منه على المستوى العام، سواء بتطويرها أو بتكاملها بأشكال أخرى مبتكرة..

ولا أكتمكم سرّاً إذا قلتُ أن الدعوة لاقت هوىً في نفسي ؛ ذلك أنني بدأت ذلك نسبياً، بالتقييم الذاتي والعام الذي نشرته في مقال طويل على جزأين، في مطلع الشهر الأخير من العام الماضي، في جريدة الرأي، بعنوان (حين يكون سَلاماً بلا خيل..!؟)، والذي وصلتني ردود فعل لافتة عليه، وما تزال.

الحضور الكرام..

في سياق عملية النقد الذاتي لتجاربنا السياسية، الفردية منها والعامة، لا بدّ من إنتاج مفاهيم معرفية جديدة، وأوّلها هو ضرورة التفريق في تسمية (المسؤولية العامة)، بين مفهوم (السياسة)وبين مفهوم (الوظيفة الإدارية) سواء كبرت تلك الوظيفة أم صغرت.

وهنا اسمحوا لي بالقول: أنّ هناك محطتين فارقتين في حياتي، جعلتاني أعيد تقييم تجاربي السابقة لهما؛ إذ لم أشعر، نسبيّاً، أنني أقوم بدور سياسي فعليّ إلا حين أصبحت وزيراً للخارجية في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، وأنّ ما سبقها من أعمال سَفارة ووزارة لم تكن سوى وظائف إدارية، على أهميتها بالنسبة للدولة والحكومة.

أما المحطة الثانية، فهي التجربة النيابية في العام 1989؛ وتلك محطة جعلتني أعيد تقييم رأيي في العمل السياسي الحقيقي، وفَتَحَت في ذهني مفاهيم وأفكار هي جوهر التصحيح والإصلاح الحقيقي المنشود في بلادنا، فالاتصال بالناس والانخراط في همومهم ومشكلاتهم يعطي للعمل السياسي مضامين فعلية في حياة المرء، بل ويُكسبُ السياسي، إذا كان صادقاً مع نفسه، خبرات لا بدّ منها لكلّ مشتغلٍ في السياسة أو الشأن العام.

في حكومتي، التي شكّلتها في صيف العام 1991، كان الاختبار الحقيقي لقدرتي على الالتزام بممارسة هذا الفهم الذي اكتسبته للسياسة، بين العمل الحكومي وبين النيابة، لأنّ محصّلتها الإيجابية كان ينبغي لها أن تكون تطويراً للديمقراطية على المستوى العام.

وبصرف النظر عن معايير الربح والخسارة الشخصية، فقد دفعتني قناعاتي ويقيني ووجداني إلى الانحياز للديمقراطية، في قصة يعرفها كثير منكم.

***

في الشأن المحلّي، وسأقف عند بعض المحطّات التي أعتبرها فارقة في تجربتي السياسية، متمنياً أن تتسع رحابةَ صدوركم لسرد تلك المحطات؛

* أزعمُ أن الراحلَ العظيم الملك حسين، رحمه الله، أراد بتكليفي لتشكيل الحكومة، في صيف العام 1991، أن يُعلن أنّ هناك بدايةً لتغييرٍ جوهري في الحكم والنهج؛ أي تغييرٍ كاملٍ وشامل؛ ولا يزال قوله في كتاب تكليفي حاضراً في الذهن والوجدان، سيّما وقد تعمّق هذا الفهمُ في حوارات جانبية لاحقة معه، إذ يقول:

(.. يسعدني أن أعهد إليك بتشكيل ورئاسة الحكومة الجديدة، وقد فاز الميثاق الوطني بمباركة الشعب وإقراره له، في وقت ما يزال يجتاز فيه بلدنا ظروفا دقيقة تتطلب الكثير من الحرص والانتباه، وقدراً كبيراً من الجهد المثابر الجاد على سائر الأصعدة وفي مختلف الميادين.. من عملٍ لتثبيت قواعد النهج الديمقراطي، وتصديا للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تفاقمت بسبب أزمة الخليج، بما يتطلبه ذلك من استجماع للعزم والإرادة والطاقات وتضافر للجهود، ومن نظرة شمولية واعية متطورة لوضعنا الداخلي العام، ولواقعنا العربي المؤلم، وللتحولات الجارية في العالم، وما يتمخض عنها من سياسات واتجاهات جديدة، تنعكس على منطقتنا التي نحن جزء لا يتجزأ منها..).

* وبالفعل، شكّلت حكومة على نحو مختلف، من زملاء أقوياء وأكفياء، وبخطّ إصلاحيّ جدّيّ واضح؛ لكنّ بعض التيارات لم تفهم إرادة التغيير الجادّة، بل ولم تشعر به، وسارت في مسارات مواربة، فأضعفت هذا المسار الإصلاحي والديمقراطيّ، الذي بدأ في البلاد بجدّية واضحة ولا تخفى على أحد.

* (من تلك الأسماء، أصبح ثلاثة منهم رؤساء وزارات في فترة لاحقة؛ و آخر أصبح رئيساً للديوان الملكي؛ وآخر أصبح رئيساً لمجلس النوّاب)؛ وما أريد التأكيد عليه هنا هو أن التشكيل كان يتوخّى القدرة والكفاية في الأشخاص لتحمل مسؤولية التغيير الجاد والإصلاح، والانتقال بالبلاد من حال إلى حال، كما أراد صاحب القرار آنذاك، الراحل الحسين.

* وكان الحسين في غاية الشجاعة عندما استخلص العبر من أحداث نيسات 1989 وعمل جاداً في نقل البلاد من حالة الاحكام العرفية إلى دولة المواطنة وفتح الباب على مصراعيه لإجراء إصلاح شامل وحقيقي. والتحم الشعب بالقيادة وجاء انتخاب مجلس 1989 ( الحادي عشر) ليصبح درة التاج الدموقراطي . وبدون مبالغة فان هذا النهج هو الذي حمى الأردن من تداعيات الحصار القاسي الذي فرض على الأردن بعد احتلال الكويت .

*ومن هذا المنطلق وتطبيقاً للمفهوم الذي ذكرته حول المسؤولية العامة ومفهوم السياسة والوظيفة الادارية، فقد عقدت العزم عندما أصبحت رئيساً للوزراء على أن أحمي الديموقراطية الوليدة واقنعت الحسين بقبول استقالتي لأن الوطن وحمايته هي أهم من كل المناصب والأشخاص : وحتى لا يظن أنني أتهرب من المسؤولية عرضت عليه أن أصبح وزيراً للخارجية في الحكومة الجديدة. ولكنه رفض وقال لي سنكمل مشوار الاصلاح سوية .

•وعند قيام هيئة الوزارة بالسلام على الحسين مودعين في قصر بسمان خاطبني جلالته قائلاً : أشهد الله أنني ما تعاملت مع شخص أشرف منك، وقلدني وسام النهضة المرصع أعلى وسام أردني.

وزملائي الوزراء شهود على ذلك .

* وكان رد جلالة الملك الراحل حسين خطياً كافياً لي، ومنصفاً لتجربتي، حيث قال:


•وبعد ثلاثة أسابيع من تشكيلي للحكومة، أذكر أنني كتبت رسالة منشورة إلى الصديق الراحل محمود الكايد، الذي كان رئيس تحرير صحيفة الرأي، قلتُ فيها:

(.. إنّني، بصفتي مواطناً ونائباً، أشعر بأنّه، في ظل أوضاع الأردن الداخلية والخارجية، الاقتصادية منها والسياسية، أضحى من الضروري، بل من الواجب القومي، أن تجري عملية تجسير عاجلة للفجوة بين فئات الناس، اجتماعياً واقتصادياً).

• وفي قرار الذهاب إلى مؤتمر مدريد، صدر قرار مجلس الوزراء، الذي نصّ على:

(..قرّر مجلس الوزراء قبول الدعوة من حيث المبدأ، والموافقة على المشاركة في المؤتمر بوفد أردني – فلسطيني مشترك، وإبلاغ جهتي الدعوة بهذه الموافقة المستندة إلى الأسس التالية:-

- حماية مصالح الأردن العليا، دفاعاً عن أمنه ومستقبل أبنائه، وإدراكاً لأبعاد، المسؤولية وأمانة الحكم في هذه الظروف المصيرية).

-وتضمن قرار مجلس للوزراء بنوداً تتعلق بتأمين الانسحاب الاسرائيلي الشامل وضمان عروبة القدس وممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير على ترابه الوطني وحق العودة وغيرها من النقاط .

•وفي العام 1997، في افتتاح المؤتمر العام الرابع لحزب المستقبل، الذي كان أمينه العام الراحل سليمان عرار (حيث كان هناك اتصالات جارية بيني وبين السيد أحمد عبيدات من جهة، والسيد عرار من جهة ثانية، لتكوين حزب جديد يجمعنا نحن الثلاثة. وفي وقت لاحق، طلب السيد عيسى مدانات الانضمام إلى هذه الاتصالات، باعتباره أميناً عاماً للحزب الديموقراطي الوحدوي الأردني، الذي كان نتاجاً لاندماج ثلاثة أحزاب يسارية)، وفي ضوء تلك الظروف قلتُ:

(.. عَلينا، كمؤسّسات حزبية وأناس يعملون في الحقل العام، واجب التعامل مع تداعيات وأخطار السلام المزعوم في كلّ من الأردن وفلسطين. فالسلام المنشود هو مغاير لما يجري الآن، وبذور الصراع العربي _ الإسرائيلي ما تزال مزروعة في تربة الشرق الأوسط الخصبة، يرويها بنيامبن نتنياهو بمـــاء صهيونيته، ويسمّدها بعنصريته، وخطر المشروع الصهيوني يقع علينا مباشرة وفوراً بعد فلسطين، وسوف نندم يوم لا ينفع الندم على تهاوننا وتجاهلنا لتلك الأخطار والأطماع).

• والحقُّ أنّني عانيت ، في كلّ تلك المحطّات السياسية، في سبيل العمل بشكل مؤسسي، منذ اليوم الأول لانتخابي رئيساً لمجلس النوّاب، وكذلك في مجلس الأعيان؛ فأثناء نقاش مجلس الأعيان لمشروع قانون الجمعيات لعام 2008، كنت الوحيد من الأعيان الذين صوّتوا ضدّ القانون، ولكن تمّت الموافقة عليه بالأغلبية، وأصبح نافذاً. وأذكر أن رأيي كان:

(.. لايلبّي هذا القانون التزامات الأردن من خلال توقيعه على عدد من الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. فهناك قيود ثقيلة وتدخّلات تمارس على نشاط الجمعيات، حيث أنّ هذا القانون لايهتمّ بالشكل المطلوب في تعزيز دور ومشاركة مؤسسات المجتمع المدني، في التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحرية، بل أبقى عملها محصورا بالعمل الخيري، ومنح المساعدات فقط).

• وفي العام 2011، ومع بدايات ما سمّي بالربيع العربي، رفعت رسالة باسم مجلس الأعيان إلى جلالة الملك عبد الله الثاني، تعبيراً عن موقف ورأي وتحليل مجلس الأعيان للظروف السائدة، جاء فيها:

* (يرى مجلس الأعيان أنّ ضعف الخطاب السياسي والإعلامي للحكومات المتعاقبة، وحتى الآن، وتشتّت سياساتها الداخلية، وجنوحها الواضح إلى ممارسة الحكم بمنهجية "تسيير الأعمال"، وبعقلية وظيفية مجرّدة، أسهم وبصورة جلية في تفاقم الهموم والمشكلات الداخلية، وأفقد الحكومات ميزة تفاعل المجتمع مع سياساتها وقراراتها وإجراءاتها، وأوجد هوة كبيرة بين المواطن والمسؤول، وأدّى بالتالي إلى استفحال حالة الغموض والتخبّط وتبادل الاتهامات، وظهور ما يسمّى بمراكز القوى والمتنفّذين في المصطلحات الدارجة على ألسنة المواطنين).

* (يرى مجلس الأعيان، وبتأثّر، أنّ مبدأ الشراكة في تحمّل المسؤولية بين السلطات يفقد مضمونه تباعاً، في ظل ضعف إدراك الحكومات لحرمة وحتمية تأصيل هذا المبدأ، وجنوحها في المقابل، إلى التعامل مع هذا الثابت بمنهجية "رفع العتب"، خلافاً لأصول الشراكة الدستورية في حمل أمانة المسؤولية).

* (يـرى مجلس الأعيان أنّ الظروف المعيشية، ومتطلّبات العيش الكريم الآمن، باتت تشكّل عوامل ضغط هائل على كاهل السواد الأكبر من المواطنين، وهو واقع أفرز مؤثّرات مؤلمة على طبيعة العلاقات بين مكوّنات المجتمع، وأدّى، إلى جانب الشكوك في مسيرة الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد، إلى تراجع في هيبة الدولة لدى مواطنيها، وأسهم إلى جانب الهموم الأخرى، في إضعاف مبدأ سيادة القانون، وتدنى مستوى ثقة المواطن بالسياسات والقرارات والإجراءات الحكومية).

* (ويرى مجلس الأعيان أنّ الحديث المتنامي عن ثنائية "الفقر والفساد" أوجد حالة من العنف في اليد واللسان، لا بل وحالة من "النقمة" في ذات المواطن، الذي بات يعزو أسباب الفقر وضنك العيش إلى استشراء الفساد، وبخاصّة لدى مَن يعتقد المواطن بأنّهم في مَنأى عن المساءلة والعقاب).

* (.. ولَقد بَاتَ مطلوباً وبقوّة كذلك، رفع سوية الخطاب السياسي والإعلامي للدولة، بحيث يكون ذا مضمون وطني مقنع، وقادر على اكتساب ثقة الجمهور، واستقطاب تفاعله الإيجابي مع توجهات الدولة وسياساتها وسائر قراراتها وإجراءاتها، باعتبار أنّ ذلك شرط أساس لضمان سلامة المسيرة الوطنية بكل تفاصيلها).
خطاب بهذا الوضوح والقوة هو أمر غير معهود في مجلس الأعيان.

• وفي العام 2013، وفي عيد استقلال المملكة الأردنية الهاشمية السابع والستون، وفي احتفال أقيم في باحة قصر رغدان، قلتُ في خطابي، بصفتي رئيساً لمجلس الأعيان، واعتُبِرَ في حينه أنه خطاب غير تقليدي:

(.. فلَم يعد مفهوم الاستقلال قائماً على التخلّص من التبعية الأجنبية فقط، ولا على التقوقع داخل الحدود، بل صار يعني القدرة على التأثير في العالم، والقدرة علـى التأثر كــــذلك، في نســــق يجنـــي العوائــد والفوائــــد، لا المشكلات والصراعات، وبمـــا لا يجافــــي الثوابت في حياة الشعوب، وفي الطليعـــــة منها، الهويــــات الوطنية الجامعة. والاستقلال الناجز، هو ذلك الواقع الذي يؤهّل الشعوب لأن تكون صاحبة الخيار في أوطانها. وهي لن تكون كذلك إلا إذا كان التوافق الوطني الداخلي هو هاجسها وبوصلتها، في سائر الشؤون الأساسية من حياتها).

• وعشيّة نشر خطة وزير الخارجية الأمريكية جون كيري في العام 2014، وما أثارته من بلبلة داخلية، وُجّهت رسالة إلى جلالة الملك عبد الله الثاني، وسُلِّمت باليد لمدير مكتبه آنذاك، جاء فيها:

(.. كان هدفي من تلك النشاطات هو الدفاع عن اللُّحمة الوطنية، وعن النسيج الاجتماعي، في وجه تفاعلات ما تسرّب من خطّة كيري، والتي بدأت تأخذ منحى يضرُّ بالسلم الأهلي، وبالمفاهيم التي كافح الهاشميون والأردنيون، على مدى تسعة عقود من الزمن، لأجل حمايتها. وكان واجباً عليَّ التصدّي لمخاوف وهواجس بعض الفئات، حول ما يسمّى بمؤامرة الوطن البديل، وادعاءات التجنيس والتوطين، وإلغاء حق العودة، وما إلى ذلك من أقاويل انتشرت بين بعض فئات المجتمع الأردني بشكل مفزع..).

سيداتي سادتي ،

هل تكفي تلك المحطات كشهادة سياسية أقدّمها للحوار المفتوح بين أيديكم..؟؛ الأمر متروك لكم أيها الأعزاء؛ مُذكّراً أنني لم أقل ما سبق تمجيداً لشخصي، أو لتجربتي، بل تذكيراً ببعضها، لأنها لاتزال موضوعات راهننا وأسئلتنا؛ ولا يعني ذلك أيضاً بأنّ تجربتي لم تخلُ من أخطاءٍ أو عثراتٍ أو فشل، إذ إن الوقائع تقول: طالما أننا لم ننتقل درجات في الإصلاح والتطوير والارتقاء في حياة الناس ومستقبلهم، فكلنا مقصرون، وينبغي علينا البحث باستمرار عن أخطائنا وأماكنها.. وبالرغم من كل ذلك أعتبر نفسي من ضمن المسؤولين الذين يتحملون بعضاً من المسؤولية ، ولا أتهرب منها .

***

الإخوة والأخوات المحترمون..

بصرف النظر عن تجاربنا السياسية جميعاً؛ قد يكون من المفيد هنا الوقوف، بجدّية وتأمّل، عند شعارات الشارع العربيّ والأردنيّ، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية، ودلالاتها؛

1)الولاية العامة

لماذا يرفع الناس منذ سنين شعار استعادة الولاية العامة؟

في بلد كالأردن هناك اجماع على شرعية الحكم والحاكم، ولا حاجة ولا وجود لأي توجه لتغيير هذا الوضع. مطلب تغيير النهج هو طلب برىء من أي خبث أو نوايا سلبية أو أغراض شريرة: بل هو مطلب غرضه دفع عملية التقدم في الاردن إلى الأمام، وغرضه تعزيز مفهوم المؤسسية. ونحن في الأردن لسنا كبعض الدول العربية التي ثارت شعوبها على حكامها لخلاف سياسي عميق.

وأكثر من ذلك، فإن تطبيق مفهوم الولاية العامة هو مفهوم دستوري هدفه تحصين الملك، وحمايته من أي اخطاء ترتكبها السلطة التنفيذية. وهذا مبدأ دستوري راسخ وأساسي في دستورنا.

هذه الحقيقة زينت سماء المملكة الثالثة، ولا تزال تزين سماء المملكة الرابعة ويتسآل الناس: طالما أن هذه الحقيقة الثابتة والمثبتة، فلماذا يبعد منصب رئيس الوزراء ومجلس الوزراء عن ممارسة حقهم الدستوري . نعم، في هذه الظروف العصبية نحن بحاجة إلى تحصين رأس الدولة وإلى وجود قيادات قوية وكفؤة.

الوقت المخصص لي لم يعد يتسع للحديث عن قضايا أخرى هامة مثل مكافحة الفساد والهدر، والانتخابات وبناء الأوطان .

***

ختاماً أقول أنه من حقي بعد 50 عاماً من العمل في الحقل العام، ومع اقترابي من سن الثمانين عاماً . وأمام هذا الحشد الكريم أن أقول ما قدمته من نماذج قليلة ومختصرة عن مواقفي وآرائي خلال تلك السنين ليس هدفه التبجج، ولا إظهار ( الأنا) ، ولكن لاثبت للناس أنني لست الانسان الذي أكل الاستبداد روحه . ولست من النخب السياسية التي تقفز من سفن الحكم من دون اعتبار لعقل المواطن الأردني والعربي العادي. وذكائه. وصحفنا وفضائياتنا وإعلامنا يشهد. فالنخب العربية التي عاقرت بالطغاة وسوغت لهم عند الناس على نحو غريب في السياسة وفي الدبلوماسية وفي الفكر والأدب وفي الفن وفي شؤون المجتمع .وهنا تصعب تبرئة أحد. فالمازق والخراب الذي آلت إليه أحوالنا هي من ضعفنا نحن أولاً أما الغرب ومصالحه الاستعمارية فتأتي بالدرجة الثانية من حيث المسؤولية .

أما أنا شخصياً، فلا أزال عند يقيني، الذي قلته، عندما تمّ تكريمي بعد مغادرتي رئاسة مجلس الأعيان في العام 2013:

(.. أقول أمامكم، رجال الدولة وأعيان الأمّة، بالصوت العالي وبالفم الملآن، إنّني مرتاحُ الضميرِ، أعتزُّ بأردنيتي وهويتي العربية. فأنا ابن المدينة والقرية، وأنا ابن البادية والمخيم، وأنا ابن الوطن من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. وبإذن الله، عندما يحين موعد الرحيل، فإنّني سأدفنُ في ثرى الأردن، وفي مقام أمين الأمّة أبي عبيدة عامر بن الجراح، لأكون على مشارف فلسطين، وقريباً من مسقط الرأس نابلس).

والسلام عليكم ورحمة الله