كيف مات بائع الخضار أنس الجمرة؟ …تفاصيل جديدة لم تعرفوها

بعد تركه الدراسة في الصف السابع، عَمِل أنس الجمرة (28 سنة) عتالًا في سوق الخضار المركزي في إربد، ثم بائعَ خضار متجوّل على الرصيف، يأخذ من تجّار السوق بضاعةً برسم البيع. قبل 20 يومًا تقريبًا، وفي حادثة غير استثنائية أبدًا، صادر موظفو بلدية إربد بضاعته. لحق بهم وسكب على نفسه البنزين وقال للموظف: «أعطيني بضاعتي يا بحرق حالي». وعده الموظف بإعادتها، ولم يوُفّي وعده.

حاول أنس، في الأيام الأخيرة، تجاوز خسارة البضاعة المصادرة، فعمل ليلًا نهارًا، ونام في الشارع قرب الخضار، لكن دون جدوى. فجر السبت، رفض تجار الحسبة تزويده بالبضاعة لعدم تمكّنه من سداد المبالغ المترتبة عليه، فعاد لبيته دون عملٍ. وما بين الساعة الثامنة والتاسعة صباحًا من ذلك اليوم، شنق نفسه.

كشفت قضيّة أنس وجود تجاوزات خلال مصادرة موظفي البلديّة بضاعة الباعة المتجولين. إذ يتهم الباعةُ الموظفين بمصادرة البضاعة لأنفسهم وتلقي رشى، ولا تنكر البلدية وجود هكذا تجاوزات لكنها تقول إنها بسيطة. وإثر الحادثة، فتحت البلدية تحقيقًا وتنتظر النتائج لتحويل المخالفين للقضاء.

التزامات كثيرة

ترك أنس الجمرة (1992-2020) الدراسة بعد الصف السابع ليعمل عتالّا في سوق الخضار المركزي في إربد. في فترةٍ من حياتهِ، عمل سائقًا على شاحنة لنقل المواد التموينية بين الأردن والسعودية، قبل أن يتركها ويعود إلى بيع الخضار. استأجر محلًا في المدينة، لكنه سرعان ما تركهُ لارتفاع أجرة المحّال، والخلوّات، ورسوم الترخيص، وعاد يبيع الخضار على الرصيف. «شغلتنا العتالة وإحنا صغار، وبس الواحد يتطوّر بيصير يبيع خضرة»، يقول شقيقه ومُرافقه في العمل، يزيد.

في مكانين، واحدٌ قرب دوار الخطاطرة قرب المجمّع الشماليّ، وآخر في شارع القدس، عمل أنس وإخوته في بيع الخضار في إربد. وكانوا مثل كثير من شباب المنطقة، يأخذون بضاعتهم من تجار السوق المركزي بالدين، يبيعون ويسددون ثمن البضاعة. يقول محمد درويش، أحد هؤلاء الباعة: «أكثرنا متداينين بالحسبة، مشان نطلّع 10-20 ليرة إن طارت، ونروّح على ولادنا».

كان أنس واحدًا من 3000 بائع متجوّل في المدينة يمارسون عملهم على بسطات، أو عربات يدوية، أو على سيارات بك أب متجوّلة، أو باعة يضعون بضاعتهم على الرصيف، وفق رئيس البلدية حسين بني هاني. وتعتبر البلدية هؤلاء الباعة مخالفين لنظام مراقبة وتنظيم الباعة المتجولين والبسطات والمظلّات والأكشاك، لذا تلاحقهم من خلال قسم الأسواق ونقطة الشرطة التابعة للبلدية، إذ يخرج في الحملة التفتيشيّة عنصر أو اثنان من الأمن العام ومعهما موظفو قسم الأسواق، وتتم مصادرة بضاعة هؤلاء الباعة.

تزوج أنس قبل 10 سنوات، وله ثلاث أولادٍ وبنت في الصف الثالث هي الكبرى بينهم. قبل سنتين تعثّر والده الذي كان يعمل في تجارة الأثاث، فحمل هو مسؤوليّة إعالة 21 فردًا، هم والده وأشقاؤه وإخوانه، إضافةً إلى إعالة أولاده، وأولاد شقيقه، بالإضافة إلى التزامه بتسديد قسط البيت الذي يسكنه، وقسطٍ آخر على السيارة التي ينقل بها البضاعة من السوق المركزي إلى حيث يبيع على الرصيف، وقسطٍ ثالثٍ لصندوق إقراض المرأة الذي أخذه أحد أفراد العائلة لتسكير بعض ديون تجّار السوق، فيما وصلت ديون التجّار على أنس إلى خمسة آلاف دينار. «[أنس] كبير الدار، كنا نشتغل ونحط بإيده»، يقول شقيقه يزيد.

«أخذوا الخيارات كلهن»

يروي يزيد أنه قبل الحادثة بعشرة أيّام، مع العصر، جاء موظفون في البلدية مع عناصر شرطة في حملة مصادرة. كان أنس ويزيد وإخوتهما الصغار موزعين على المكانين، شارع القدس، ودوار الخطاطرة، وأخذت البلدية والشرطة بضاعةً لأنس من شارع القدس حيث كان يقف يزيد.

شملت بضاعة أنس ذلك اليوم 20 صندوقًا من الخيار، وصناديق زهرة، وبطاطا، وبندورة. يقول يزيد الذي كان شاهدًا على الواقعة إن البضاعة تتفاوت في السعر، فـ«الخيار هسّة الصندوق بيطلع بـ 10 ليرات». لكن المصادِرين تركوا الخضار الرخيصة «وأخذوا الخيارات كلهن»، بحسبه.

هاتَفَ يزيدٌ أنس ليخبره بأمر مصادرة البضاعة، فلحق أنس سيارّة البلدية إلى مبرّة أم الحسين لاعتقاده أنَّ البلدية ستفرغ حمولتها هناك. انتظرهم لكنهم لم يأتوا، فبحث عنهم في الشوارع حتى وجد عددًا منهم قرب دوّار المدينة، لم يكن بينهم الموظف الذي صادر البضاعة. وهناك، «دار على حاله بنزين، قال له [لأحد موظفي البلدية] أعطيني بضاعتي يا بحرق حالي»، حسبما يروي يزيد.

في اليوم التالي، ترك أنس أمر البضاعة المصادرة، وصبَّ اهتمامه على تعويض الخسائر في ذلك اليوم والأيّام التي سبقتها، إذ أنَّها لم تكن المرة الوحيدة التي تصادر فيها البلدية بضاعته، فعمل بشكل مكثفٍ في الأسبوع الأخير للتعويض.

تتحرَّز البلدية على البضاعة المصادرة من هؤلاء الباعة وتخزّن المواد الصلبة غير القابلة للتلف في البلدية، وتطلب من أصحابها مراجعتها لاستلامها ودفع رسوم نقلها ورسوم أخرى توضع بحسب قيمة البضاعة، وتبقى بحوزة البلدية لمدة سنة إلى سنتين قبل إتلافها. «90% من أصحابها يُراجعون البلدية التي تطلب منهم رسوم نقل، ورسوم أخرى توضع بحسب قيمة البضاعة»، يقول رئيس البلدية، حسين بني هاني.

وفي حال كانت البضاعة غذائيّة، تتصرف البلدية بها خلال 24 ساعة، فتبلّغ صاحبها بوجوب استلامها ودفع غرامة عليها، وفي حال رفضه أو تأخره، «بنوّدي [البضاعة] على مبرة أم الحسين والجمعيات النسائيّة والخيرية وعلى عائلات، بس كله بضبوطات»، يقول بني هاني.

لكنه لا ينفي وجود حالات لمصادرة بضاعة من دون تحرير وصولات وضبوطات، لكن النسبة بسيطة كما يقول: «إذا انتهت الواسطات والرشوات بتقوم القيامة، ما فيش دائرة ما فيهاش تقصير أو فساد، لكن قديش نسبة هذا الفساد؟».

لا الباعة الذين قابلناهم، ولا أشقاء أنس، قالوا بوجود وصول تصرفها البلدية للبائع الذي تُصادر بضاعته بشكل عامٍ، وهو ما يؤكّده كذلك أحد الموظفين السابقين في قسم الأسواق، والذي ما زال على رأس عمله في البلدية لكن في قسمٍ آخر.

يؤكّد الموظف، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، رصده لتجاوزات على أصحاب البسطات أثناء فترة عمله في هذا القسم، بل إن الطابع العام لعمل مراقبي الأسواق تحكمه الرشى، حسبما يقول: «أنا داومت معهم، صاحب البسطة اللي مش أزعر ومحترم بتعاملوا معه بزعرنة وبلطجة». كما يؤكّد أن عمليات الإزالة تحكمها المزاجيّة، بالإضافة إلى أنَّ البضاعة مرتفعة الثمن هي التي يجري مصادرتها وتقاسمها بين بعض الموظفون وبعض المرتشين.

يصف محمَّد البطاينة، عضو مجلس محلي في المدينة، موظفي قسم الأسواق في البلديّة بأنهم غير مؤهلين لشغل هكذا وظيفة؛ إذ أن أغلبهم يعمل بمسمى وظيفي عامل وطن أو مراقب، مضيفًا أن هنالك «انتقائية بإزالة [البسطات]. ممكن يشيلوا بسطة هون واللي جنبها .. ما يشيلوها».

هذا الشكل من التجاوزات ليس حكرًا على بلدية إربد، إذ صرح رئيس بلدية الزرقاء، عماد المومني، بالأمس لقناة المملكة بأن المجلس البلدي اتخذ منذ فترة قرارًا بتحويل عدد من الموظفين من الأسواق إلى المدعي العام، على خلفية تجاوزات شبيهة.

الأسبوع الأخير

واصل أنس العمل ليل نهار، واضطر مع أخوته للمبيت إلى جوار صناديق الخضار تخوفًا من سرقتها أو تلفها في حال تكرار تحميلها وتنزيلها، وعندما كانت تشتد الرياح والمطر، كان يلجأ إلى بك آب ديانا قديمة، لفَّ على سقفها قطعة بلاستيك لاتقاء المطر، وظل ينام هناك. يقول محمد درويش، وهو أحد الباعة وجار أنس في الحيّ: «كان بيّات هو وإخوانه بالشارع، جنب داري، إخوانه الصغار ثنين ثلاث بعز الشتا، كل الحي بيعرف إنو كان يبات بالشتا والدنيا مطر. شفت كل هاي السقعة كلها؟ والله أكلوها».

في الأسبوع الأخير، تفاقم الوضع. «قد ما أخذوا منه بضاعة البلدية صار يروح من المربح وراس المال»، يقول يزيد. زاد دين أنس لتجار السوق المركزي، البالغ خمسة آلاف دينار، 700 دينار أخرى. «الـ 700 بقى بده يخلصهن بـ500»، أي أن يدفع أنس 500 دينار نقدًا ويتنازل الدائن بالمقابل عن الـ200 المتبقيات.

في محاولة أخيرة يوم الجمعة، بحث أنس عن 500 دينار ليعود إلى تجّار السوق. لم يترك أنس وشقيقه يزيد أحدًا من معارفهما إلا وطلبا منه إقراضهما المبلغ لاستئناف العمل من جديد. «ما خليناش حدا نتداين منه عشان نجيب بضاعة ونسلّك حالنا، نقول الله بيسّر، ملقناش حدا يعطينا». انتهى يوم الجمعة، ورغم تكرار رفض التجّار في السوق المركزي بإربد تزويده بالخضار قبل أن يسدد جزءًا من ديونه، لكنه قرّر الذهاب في محاولةٍ أخيرةٍ فجر السبت.

كان أنس وشقيقه يقسّمان العمل عادة، إذ يذهب أنس للحسبة مع الفجر، فيشتري البضاعة ويتصل بشقيقه يزيد، «برنّ عليّ بقول لي تعال حمّل». لكن أنس لم يهاتف شقيقه بعد زيارة السوق فجر السبت. بعدها بساعات، ذهب أحد الأشقاء لإيقاظه، حيث كان يقطن الطابق العلوي من بيت العائلة، فوجده مشنوقًا على الشرفة. «البني آدم إله قدرته، هاظ زلمة فقع»، يقول يزيد.

مع ساعات صباح السبت اندلعت الاحتجاجات في المدينة، وأحرق المحتجون إطارات في الشوارع وألقوا فيها الحجارة، في حين دفن أنس في مقبرة الرمثا، واستمّرت الاحتجاجات حتّى يوم الأحد.

شكلّ رئيس البلديّة بني هاني لجنة للتحقيق في الحادثة، وقال إنه تم توقيف الموظفين المرتبطة أسمائهم بالحادثة، غير أن موظف البلدية نفى أن يكون هناك توقيفات عن العمل للمجموعة التي صادرت بضاعة أنس. فيما نشرت وكالة الأنباء الأردنيّة بترا ووسائل إعلام أخرى خبر توقيف «الأجهزة الأمنية عددًا من العاملين في قسم الأسواق ببلدية إربد على خلفيّة حادثة انتحار شاب بزعم مصادرة البلدية لبسطته التي يعتاش منها». غير أن الناطق باسم مديرية الأمن العام عامر السرطاوي نفى لحبر توقيف أحد على خلفية هذه القضيّة.

في الشارع، كان محتجون من باعة الخضار في المنطقة إضافة إلى شباب عشرينيين، وامتدت الاحتجاجات إلى محيط المجمع الشمالي في المدينة، فيما أطلقت قوات الدرك الغاز المسيل الدموع لتفريقهم. سألتُ يزيد إن كان يعرف المحتجين فقال «لأ [بس] الناس بطَّلت تتحمل».

لا حلول غير المصادرة

يحظر نظام مراقبة وتنظيم الباعة المتجولين، مزاولة مهنة بائع متجوّل، وفي حال المخالفة يحقّ للموظف المختصّ «التصرّف بالسلع المخالفة، وفقًا للتعليمات التي يصدرها الوزير لهذه الغاية». لكن مهنة الباعة المتجولين تُصنّف ضمن مفهوم القطاع غير المنظّم أو غير الرسميّ، الذي صادق الأردن على اتفاقية مع منظمة العمل الدوليّة على برنامج لنقل العاملين فيه إلى القطاع المنظم.

يقدر أمين عام وزارة العمل الأسبق، حمادة أبو نجمة، عدد العاملين في هذا القطاع بـ 48% من مجموع العاملين في الأردنّ، فيما تبلغ نسبة مشاركتهم في الناتج القومي الإجمالي نحو 26%، معتبرًا أن هؤلاء العمّال يفتقدون الحماية.

ويطالب أبو نجمة بتنظيم هذا القطاع، الذي يرى الأردن ودول عربية أخرى تتعامل مع العاملين فيه من على مبدأ المنع، في حين تتحدث المعايير الدولية عن نقل القطاع غير المنظم إلى القطاع المنظم بطريقة التحفيز، «بحيث يكونوا محميين بالضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، وشروط بيئة عمل مناسبة، وغير خطرة، من واجب الدولة أن توفرها، وليس الهدف من النقل المنع ونطاردهم؛ هذه فئات ضعيفة».

ويقترح أبو نجمة إنشاء مناطق محددة لهؤلاء الباعة في الشوارع، بعيدًا عن المحسوبيّة والواسطات، وأن تكون الأماكن مناسبة لا معزولة في مناطق بعيدة، وبدون أن تفرض البلديات رسومًا وغرامات على هذا النوع من العمل.

بعد الحادثة، غرَّد رئيس الوزراء بتغريدة يقول فيها إنه وجّه البلديات، من خلال وزارة الإدارة المحليّة، إلى استحداث أسواق مجّانيّة أو بأسعار رمزية لأصحاب البسطات، تُمكّن العاملين من العمل دون إغلاق الشوارع وممرات المشاة، بحيث تلتلزم الحكومة بتقديم أراضٍ من الخزينة في حال لم تتوفر أراضٍ تابعة للبلدية.

فيما أكَّد مساعد أمين عام وزارة الإدارة المحلية، عبد الفتاح الإبراهيم، لقناة المملكة أن الحلّ الأمثل للبلديات هو أن تجد أماكن بديلة مناسبة وقريبة، «مش يرحّلوا البسطات لأماكن نائية وبعيدة». وعلى خلفيّة الحادثة، شكّلت وزارة الإدارة المحليّة، كما يقول الإبراهيم، «لجنة تحقيق حياديّة من غرفة التجارة ومن منظمة حقوق الإنسان ومن أطراف ليست لها علاقة بالقطاع البلدي».

بعد أن أنهى المشيعون دفن أنس غّرد رئيس الوزراء عمر الرزاز: «رحم الله الشاب العصامي أنس الجمرة، فقد حاول أن يجني قوت يومه بعرق جبينه». حين أخبرت يزيد بمحتوى التغريدة وتوجيهات الرزاز للبلديات إلى استحداث أسواق مجانية أو بأسعار رمزية لأصحاب البسطات، قال: «بعد إيش؟