الفلسطيني بِظل جائحة الكورونا
بقلم : ميساء أبو زيدان.
انتقلت مظاهر الحياة الصاخبة من المرافق المختلفة لتتركز في المنازل حول العالم إلا تلك التي ترتبط بتوفير الخدمات الأساسية للإنسان وبمقدمتها الصحية والأمنية والاقتصادية، في مشهدٍ وكإنه يعكس قوة الطبيعة التي استُنزفت في زمن التقنية العالية والذكاء الإصطناعي دافعةً البشرية نحو استراحةٍ قسرية من جنون الحداثة الذي طال كثيراً من مقومات الإنسانية. الأبرز في هذا الشأن هو التمايز الواضح بالسياسات التي أُفردتها حكومات العالم قاطبةً للتعامل مع ما أفرزته هذه الجائحة من أزمات وتحديات بحيث عكست مدى الخبرات والقدرات والثقافات التي امتلكتها كما شعوبها، لكن الأهم هنا هو أن الجائحة كشفت مدى قيمة الإنسان بمختلف الدول الأمر الذي شهده الأفراد حيثما تواجدوا بل أنه عكس الوجه الحقيقي لعدد من القوى والدول التي انبرت مدافعةً تُفسر سياساتها في التعاطي مع الجائحة وأنها اعتمدت على تصنيفها اقتصادياً وقدراتها الإنتاجية.
أما الفلسطيني مثله كمثل البشر يعايش انعكاسات هذه الجائحة على واقعه اليومي مترقباً لكيفية الانتهاء من هذه الحال التي ألمت به كونها أضافت ثقلاً لما يعانيه أساساً من ظروفٍ قاهرة فرضها الصراع الذي لا زال يقاسيه منذ بدايات القرن الماضي، كما أنه يعايش هذه الأزمة حسب المحيط الذي يتواجد ضمنه سواء كان على الأرض الفلسطينية أو خارجها. وهنا يتجلى حجم الأزمات التي تعترض الفلسطيني: فها هو يقاوم التمييز العنصري بحقه كمواطن من قبل الحكومة الإسرائيلية التي تتجاهله بكافة الإجراءات المُتّخذة لمواجهة الجائحة، أو يتملكه هاجس التبعات الكارثية بحال تفشى الوباء وبظل فقدان ملامح الحياة أساساً في قطاع غزة الذي لا زال يعاني الانقسام السياسي وكونه بات رهينةً لذراع الإخوان المسلمين في فلسطين ولتوجهاته التي تهدف لتحقيق مصالح أطراف عديدة في المنطقة على حساب الفلسطيني وقضيته، أو أنه يُجاهد لإدارة الأزمة بما أوتي رغم السيطرة الإسرائيلية على أراضيه التي تنهجها حكومة إسرائيل لتعميق الأزمات بوجه الفلسطينيين عبر إحداث الثغرات في القدس والضفة الغربية.
هنا وإن أردنا استعراض حال الفلسطيني في الخارج فسنجده وبخلاف سعيه لتحقيق الحد الأدنى من مقومات العيش أصبح يعاني أيضاً من فقدان المقومات الكفيلة بحمايته من هذه الجائحة إلى جانب العنصرية والحقد الذي أبداه البعض في إحدى دول الطوق الأمر الذي قوبل بالرفض والاستهجان من قِبل الجميع، أو أنه لا زال يعاني ويلات اللجوء الجديد الذي تضاعف مشقةً إذ أنه أمسى خياره الأوحد بفعل الأزمات التي عصفت بعدداً من الدول العربية التي أقام فيها لاجئاً فما عاد يأبه بما استجد من تحديات بفعل (الكورونا) مقابل مأساته الأساس، والكثير من الصعاب التي اختصت الفلسطيني حيثما تواجد والتي وكأنها منحته صلابة العيش بظل ما يستجد على العالم الآن.
ورغم ذلك يبدو أن مقدرة الفلسطيني التي تشكلت بفعل معاناته المتصلة بقضيته العادلة مكنته للتعاطي مع هذا التحدي الجديد وبمختلف المستويات، فها هي قيادة القائمة العربية المشتركة تعمل ليل نهار لتفادي السياسات العنصرية التي لا زال يجابهها منذ جريمة التطهير العرقي التي ارتُكبت بحق شعبه عام 1948، وها هو يدير الأزمة عبر أداءٍ مؤسسي لافت لتنفيذ القرارات والسياسات التي تبنتها القيادة الفلسطينية مما ساهم بالحد من تفشي الوباء رغم ما يضيفه الاحتلال الإسرائيلي من تحديات وبالتلازم مع نضاله السياسي للتحرر منه ومن سياساته البشعة المُستهدفة للإنسان الفلسطيني ولحقوقه المشروعة.
أما عن الفلسطيني الحامل للجنسيات المختلفة حول العالم وبالرغم من حجم الصعاب المزدوجة التي يعانيها إلا أنه لم يتخلَ عن هويته الفلسطينية بل إنه يحرص على تجسيد عمق انتمائه من خلال حجم التضامن الذي أبداه تجاه أبناء شعبه عبر حملات الدعم المختلفة كالتي استهدفت الطلبة الفلسطينيين الدارسين في الخارج، أو التحرك العاجل لتوفير أدنى مقومات العيش والسلامة لأبناء شعبنا في مخيمات اللجوء وبالتحديد في لبنان الشقيق. أما المشهد الذي يثبت أصالته شعباً فقد رسمه الفلسطيني عندما انخرط لخدمة الإنسانية والمجتعمات التي يقيم بها وبمختلف المناحي من خلال أداء المهام المتنوعة والتي أدت في بعض الأحيان لخسارتنا كوادر وازنة وبالتحديد في القطاع الصحي كما حدث في الولايات المتحدة وعدداً من الدول الأوروبية.
وهنا يجد الفلسطيني نفسه بمواجهة محطةٍ هامة حيث تفتح أمامه العديد من التساؤلات حول مكانة الذات والدور المناط به انطلاقاً من أسرته التي بات مستعيداً لكثيراً من ملامح متصلة بها لطالما افتقدها بظل صراع العيش والحداثة وصولاً لمجتمعه وشعبه والإنسانية جمعاء. إن الثابت الأوحد هنا هو صلابة الإرادة التي يمتلكها الفلسطيني إلى جانب إيمانه الراسخ بأحقيته في العيش الكريم كما باقي شعوب العالم التي يدرك تماماً أنه جزءٌ لا يتجزأ منها، كما أن الحقيقة الواضحة بهذا الصدد هي أن الفلسطيني بعد جائحة الكورونا لن يكون كما كان قبلها وبكافة المناحي.