فارس الحباشنة يكتب ... (توجيهي) اللي مش ضاري على البخور قفاه تنحرق

في التوجيهي انقضى نصف العام، ومدرسا الانجليزي واللغة العربية لم يعينا بعد، ومقررات المناهج من كتب ومواد تعليمية لم تصل من المركز : القصبة وعمان الى مدرسة راكين الثانونية النائية والهامشية ،والمنسية .
دخلنا الفصل الثاني، وكانت اول تجربة حكومية لتوجيهي نظام الفصل الواحد. نصاب الحصص لم يكتمل يوما، الطلاب يهربون، والصفوف فارغة، وبعد الفرصة «استراحة فصل اليوم التعليمي « تصبح المدرسة خاوية، لا طلاب ولا معلمين، الاذن يلف على الصفوف لتنظيفها واغلاقها .
الطلاب ينتشرون في الشوارع. كنت متلزما بالدوام واذهب كل يوم الى المدرسة على مضض. وفي الفصل الثاني اكتشفنا ان هناك مساقا مقررا في مناهج التوجيهي الجديد اسمه « ثقافة علمية «. كتاب من مئيتي صفحة من الحجم الكبير، وملاحق وجدوال ورسومات وتعريفات، مر العام الدراسي دون كتاب ومدرس للمادة، وذهبت الى الامتحان باجتهاد ذاتي.
كنت افكر بالتوجيهي كنوع من الخلاص، وولادة لحياة جديدة لما بعد المراهقة البائسة والمعدومة، والحياة الضيقة والناقمة. لم اكن اعرف، ماذا بعد التوجيهي، غير انك لا يمكن ان تنتقل الى حياة اخرى دون ان تنجح في التوجيهي. في مجتمعات فقيرة وبسيطة ومعدومة فان العبور الاجتماعي والطبقي لابد ان يمر من التعليم.
مادة الانجليزي من صف خامس الى التوجيهي لا اذكر ان مدرسا اكمل فصلا دراسيا في تدريسها. يعين معلم في بداية العام، وبعد شهر او شهرين ينتقل الى مدرسة اخرى، ونبقى بانتظار معلم بديل حتى ينتهي العام.
 مدرسو المواد العلمية والانجليزي اسرع من يهربوا من المدرسة، ويطلبون نقلا الى مدارس اخرى. علاقة انتقام بين المدرس والطلاب، ومن ان يشرع المدرس في المناهج، ومن اليوم الاول تبدا المؤامرات تحبك وتحاك لتهجيجه وطرده من الصف، وهناك اساليب لها اول ما لها اخر، تجعل المعلم في اخر المطاف يهج على راسه.
واحدة من المرويات فان معلم داوم حصة واحدة، ومن بعدها اختفى، ويقال انه اعتزل التدريس، وبحث عن مهنة اخرى. وصل العام الدراسي في التوجيهي الى نهايته، واعلن عن موعد الامتحانات، وتخصيص القاعة، ويمكن ان نصف الطلاب لم يعلموا بالموعد والمكان الا قبل الامتحان بيوم او يومين على اكثر تقدير.
واذكر ان مدير قاعة التوجيهي كان قصير القامة، ونصفه ممتد بالارض. ويمشي بتكبر، والشرار يتطاير من عينيه، ومن اول يوم ادركت ان الرجل ليس ناويا على الخير، وانه يبطن امرا ليس سويا للطلبة، وفي اولى جلسات الامتحان دخل على القاعة وسال عني، وهز راسه وخرج دون اي كلام او تعليق.
بقيت طوال ايام الامتحانات يدي على قلبي، وشديد الحذر من المدير تحديدا. الطلاب كانوا يحاولون الغش سواء بادخال الكتب او قصاقيص الورق وغيرها من الحيل والاساليب. ولكني شخصيا لم اكن بحاجة الى غش وغير ذلك، ادخل الى الامتحان ببالغ قراءتي ومطالعتي واجتهادي ومعرفتي، والمامي الشخصي في المنهج وغيره.
مرة واحدة حاولت الغش وفشلت وكدت ان انكشف ، وذلك لاكمال علامتي في مادة الثقافة الاسلامية مئة بالمئة. ومحاولة الغش كانت ايات قرانية من سورة المائدة كان مقرر حفظها لم يسعفني الوقت لذلك ، حاولت اكثر من مرة قبل الامتحان ولم افلح، فقررت وضميري يؤنبني بان انقلها على ورقات صغيرات ، ولعل وعسى اجد طريقا لنقلها في الامتحان.
وانطبق علي المثل الشعبي : اللي مش ضاري على البخور قفاه تنحرق «. وما ان اخرجت الورقة لنقل الايات الكريمة، سمعت وقعا على الارض لقدمين غربيتين وتسيران بقوة في الكاردور، نبض قلبي، واشتغل حدسي، وقمت فورا ببلع الاوراق، وبعد ثوان فاذا مدير القاعة وبرفقته مدير التربية والتعليم، واول ما دخل القاعة مباشرة مسك دفتر امتحاني وهزه بقوة، ولم يعثر على شيء، وبدا على وجهه الخيبة وخرج بحسرته.
اول واخر محاولة غش في حياتي. الاعتراف بالخطيئة لا يمحوها. في حياتنا خطايا كثيرة لا يعتريها اعتراف. لا تعرف قيمة الحياة الا لما تذق مرارتها وقسوتها وحرمانها ولعنتها. فكم مرة قذفتنا امواج الايام الى وحل النسيان والاهمال والفشل، وعدنا لنصعد ونحيا بقوة ولعنة الهامشي والمنسي والمظلوم والمضطهد