إلى أين سيقود حماس (لا كاسا دي بابيل)؟
انتشرت الروح الثورية وحماسة إسقاط "النظام العالميّ" بين الكثيرين من متابعي المسلسل الإسباني " La casa de papel" (بيت الورق)، الذي بثت نتفليكس الموسم الثالث منه هذا العام، وبدأت أقنعة سيلفادور دالي تباع وتوزع بين الناس من مختلف الأعمار، كما انتشرت أغنيّة "وداعاً أيتها الجميلة" في كل أنحاء العالم، ترددها الألسن كدليل على الرغبة بـ"المقاومة"، خصوصاً أن مجموعة الخارجين على القانون قررت في الموسم الأخير مواجهة النظام العالمي وإسقاطه، وأعلن البروفيسور عن فوضى "مدروسة" من أجل الانتقام بعد أن كان الهدف سرقة الذهب.
هذه الروح الثوريّة ترتبط بالأسلوب الذي يقدم المسلسل فيه نفسه، والصورة المتخيلة، شديدة الميلودراميّة، لـ"المقاومة"، إذ فجأة يقرر البروفيسور إسقاط النظام بأكمله، انتقاماً لحبيبته المحققة التي زُيف مقتلُها، ليقع البروفيسور في "فخ نصبه لنفسه". لكن لنستعد التهكم الذي أطلقه سلافوي جيجيك في تعليقه على فيلم "V for Vendetta" الذي يتبنى فكرة "الفوضى وإسقاط النظام"، إذ يقول جيجيك: "أنا مستعد لأن أبيع أمّي للعبوديّة في حال تمكن أحدهم من إخباري ما الذي سيحدث في الجزء الثاني من فيلم V for Vendetta".
لا يحاول جيجيك أن يحيل إلى "الحالة الطبيعيّة" وفرضية انتشار العنف بين البشر بسبب غياب النظام، بل يمكن فهم قوله بأنه تعليق على استحالة تغيير "النظام" في حال وظّفت ذات أدواته، وهذا ما يبرع فيه مسلسل La casa de papel، إذ يقوم البروفيسور باستخدام مقدّرات النظام وكتلته البشريّة وتصميمه، ضد النظام نفسه، وهنا تكمن السذاجة؛ فـ"النظام" متغلغل في جوانب الحياة بأكملها، وسرقة الذهب منه مثلاً لن تغير شيئاً، وعلى العكس سيزداد النظام قوّة، إذ يجب التفكير فيه كجهاز مناعة، قادر على التطور والتغيّر في كل مرة يُهاجَم فيها.
ما حدث أن الصيغة المُفرطة في عاطفيتها التي يقدمها المسلسل تخاطب فينا الأحلام الساذجة بالتغيير الجذري، ليظهر البروفيسور وجماعته كـ روبن هود، لكن بنسخة أشدّ أنانيّة. هم يبددون النقود التي سرقوها على ملذاتهم، وأهدافهم ذاتها وعلاقتها بـ"المقاومة" ليست إلا حلماً رومانسياً، لا لغاية "إصلاحيّة" أو "ثوريّة"، خصوصاً أن الخيار السياسيّ بإسقاط النظام ظهر فجأة، كاندفاع عاطفيّ من دون تخطيط مسبق، ولا نعلم ما سيكون رد النظام السياسيّ، لكن يجب الأخذ بعين الاعتبار قدرة الأنظمة السياسيّة المعاصرة على تحرير نفسها من الدساتير، ومواجهة أي كتلة بشريّة تهدد وجودها بعنف مطلق.
لا نتحدث هنا عن التقنيات التي استخدمتها "العُصبة"، ولا مدى جديتها وإمكانية تحقيقها، بل نسلم بها بوصفها فعّالة، لكنها لن تحقق الهدف المرجوّ منها، والأهم؛ أن تدمير "مركز السلطة"، سواء مجلس الوزراء كما في فيلم V for Vendetta أو سرقة الذهب كما في المسلسل الحاليّ، لا يضمن انتهاء النظام، كونه ليس فقط ماديّا، بل يُنتج من قبل الأفراد أنفسهم. أي نظام، سواءً ديمقراطي أو ديكتاتوري، يتغلل تحت جلد الأفراد؛ لسبب بسيط، أنه مسؤول عن "حياتهم". مثلاً، من سيلقح الأطفال الجدد حين تسقط البنية السياسية المسؤولة عن الإلقاح المجانيّ؟
شكل العالم الآن وتكوينه السياسي والماديّ، لا يمكن أن تغيره عصابة، لا بد من "حادث كبير"، كتلك الحوادث التوراتيّة، طوفان، انفجار كبير، طاعون يجتاح الجميع، وهذا ما يحدث حاليا، التهديد بالحروب النووية والكوارث البيئية، يحوي نوعاً من التفاؤل المَرضيّ بنهاية العالم و تغييره، لنسف أسسه وتكوينه القائم على "وحدة الشكل البشريّ".
لا ننفي أبداً أي دعوة للثورة بوجه الأنظمة القمعية والأوليغارشية، ولا نقف أبداً إلى جانب الشرطة أو ممثلي السيادة، لكن لا بد من التفكير بأن الحماس والعاطفة التي يبثها المسلسل ليست دليلاً لتغيير العالم، هي مجرد تسليّة وترفيه، مُهمشين ولصوص يديرهم "شخص ذكيّ" ذو حلم رومانسي بالمقاومة، ذات الحلم الذي امتلكه والده وأخوه من قبله.
نعم، استطاع اللعب داخل النظام السياسيّ وتهديده، لكنه لم يستطع الفكاك منه، وما زال يتحرك ضمنه، هو أشبه بلاعب ماهر، لا ينفي اللعبة، بل تتغير قواعدها بسببه، كحالة شاكيل أونيل الذي اضطر الاتحاد الأميركي لكرة السلة إلى تدعيم السلّة أكثر كونه حطمها أكثر من مرة، لكنه لم يستطع إلغاء لعبة كرة السلّة من أصلها، بل فقط تعديل شكلها.