آخر القرابين
عبدالله الفرح الشقيرات
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .
سيل الأحزان بين فواجع الأمس واليوم
اليوم السبت والتاريخ الحادي والثلاثين من آب ولكن الزمن يعود إلى خمس وأربعين عاما ،منذ ابتلع ذلك التنين الأسطوري الرابض في صحراء الأردن ليربط شمالها بجنوبها ويسهل سبيل زيارة بيت الله للراغبين من أبنائها أو من ضيوفها من شتى بقاع الأرض ، وأيضا ليبتلع في كل عام ما شاء له الله أن يبتلع من الضحايا والقرابين كشرط ديمومة لحياته وبقائه - كحال النيل في سالف الأوان كما يحدثنا بذلك التاريخ –في ذلك اليوم شاءت قدرة الله أن تفجع القرية الوادعة وقبلها نفوسنا وأحلامنا البريئة_ إذ كنا حينها صغارا لا نعرف للموت معنى_ ، بأربعة من خيرة أبنائها، نصيب مدرستنا منهم اثنان : معلم وطالب، وكان يوما حالكا رغم سطوع شمسه ،خانقا رغم عليل نسيمه، طويلا رغم قصر ساعاته ، وما يزال الكثيرون منا يذكرونه كرمز للفاجعة في أعنف صورها.
الأمس الجمعة والتاريخ الثلاثون من آب وقبل سويعات قليلة تناول ذلك التنين عشاءه _ الذي لا أظنه الأخير _ وأجهز على آخر ضحاياه وقرابينه - في عامنا الهجري المنصرم - الأخ العزيز أحمد الحجايا نقيب المعلمين، فقد تخطفته يد المنون على ذات الطريق وعلى مرمي خطوات من البلدة التي عاش بها ،وعشق ترابها وتفتحت بها قريحته الشعرية ، ولست أدري أيعشق هذا التنين الأسطوري دماء معينه ،أم يبتلع ما يقذف إليه عبر مطبات وتحويلات وعيوب هذا الطريق من جهة ،وقدرة الله وأسباب الموت والمنايا من جهة أخرى.
شطحت بي الذاكرة وقلبت في فواجع هذا الطريق الذي يستحق وبجدارة لقب مثلث برمودا الشرق ، فما أظنه أقل فتكا بخلق الله من ذلك المثلث البغيض ، وإذا كانت بين حين وآخر تبرز فيه حادثة غريبة أو تسوح في عبابه سفينة ما ،قصر الزمن بين الأحداث أو طال فأن مثلثنا هذا أقسى و أعنف وغالب أحيانه لا يُشبع نهمه للدماء ولا قرمه للحم ضحاياه بواحد بل يأخذ بالجملة ،فكم من فرحة وأدها وكم من أسرة فجعها ،والداهية أننا لم نتعامل معه بطريقة تكبح جماحه وتقلل أثره وتحد من خطره.
أيها التنين أتعلم كم للأردنيين عندك من ثارات ، من بادية وحضر وجنوب وشمال ، أم انك لا تهتم بمعرفة ضحاياك ولا تعمل على تدوين أسمائهم وحفظ أشكالهم ،أم انك لكثرتهم ما عاد هذا الأمر ذا شأن لك ، لقد اغتلت أبا وصفي الأستاذ الأديب محمد الخشمان، وحلت بينه وبين فرحته في عرس كان متوجها لحضوره، ولم تكتف بصاحب قصة وردة وريعان بل أخذت بمعيته وردتين، ابنته لبنى التي كانت في عيد ميلادها الأول وابنة أخيه التي كانت في عمر الزهور.
وقبل عام اغتلت فرحة الأخ المربي الفاضل الأستاذ أحمد السعودي والذي كان متوجها عبر ذرات رملك ومطباتك لحضور حفل زفاف ابن أخيه فاختطفت دون رحمة فلذات كبده الثلاثة ،ومن أعاجيب القدر أن أكبرهم كان معلما ، وقبله بهنيهة من الزمن أرويت حر غلتك بالأخ الفاضل النائب محمد العمامرة ورفاقه ، وقبله اللواء الخشمان الذي اختطفته على ذات الطريق التي سار عليها محمد ورفيقتاه وإحداهن ابنته ، ولا تعي ذاكرتي الآن الكثير الكثير ممن قضوا على رمالك ، ممن تعلقوا بجسورك أو هوت بهم مركباتهم على جانبيك فلهم جميعا رحمات الله وغفرانه ولنا من بعدهم حسن العزاء والصبر على المصائب ورحم الله عمر بن الخطاب (لو أن بغلة عثرت على ضفاف دجلة لظننت أن عمر مسؤولا عنها لم لم يمهد لها الطريق) وهذا قول الفصل و السلام