رغم الحصار والتهديد إيران تفرض نفسها في رقعة الشطرنج الجيوسياسية للشرق الأوسط

مدريد-»القدس العربي»:  طوال الأربعين سنة الأخيرة، ومنذ اندلاع الثورة الإسلامية بقيادة الخميني، تحولت إيران إلى موضوع رئيسي في الأجندة الجيوسياسية العالمية لاسيما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار نظام صدام حسين بعد الحرب العراقية سنة 2003 وذلك بسبب التخوف من تصدير ثورتها إلى الجيران، وحساسية المنطقة المصنفة ضمن أكبر احتياطات وتصدير النفط الذي يقوم عليه الاقتصادي العالمي. وتدرك طهران أهميتها في لعبة الشطرنج في الشرق الأوسط، وتنهج سياسة الصمود والمقاومة رفقة الردع الدفاعي وتتجنب السقوط في فخ الاستفزازات حتى تقنع الآخرين بأنها رقم صعب في كل المعادلات.

وأنتجت مراكز التفكير الاستراتيجي آلاف التقارير حول إيران خلال العشرين سنة الأخيرة، تمحورت جلها حول نقطتين، هل ستعلن الولايات المتحدة أو الغرب بمشاركة إسرائيل الحرب ضد إيران بسبب برنامجها النووي؟ ثم، هل ستشهد إيران ثورة مضادة تنهي النظام الإسلامي القائم ومعه ستتغير منطقة الشرق الأوسط؟
ورغم كثافة الحديث وبإسهاب خلال العشرين سنة الأخيرة عن فرضية الحرب الأمريكية ضد إيران، لم تحدث أي حرب، وبالتالي تغيب الحلول العنيفة ويتم الرهان على بدائل مثل أنماط الحصار المتعدد مثل الحصار الدبلوماسي والاقتصادي أساسا. ويعود غياب الحرب إلى التكلفة الغالية بشريا وعسكريا واقتصاديا، إذ أن كل حرب ستغير من وجه الشرق الأوسط كما غيرت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية من خريطة القارة الأوروبية. في الوقت ذاته، لو كانت واشنطن وحلفائها في الغرب رفقة إسرائيل سيضمنون الانتصار وسحق إيران، لما تأخروا ولو دقيقة واحدة في إعلان الحرب كما فعلت واشنطن مع العراق.
وبالموازاة مع هذا، اقتنع الغرب بصعوبة تغيير النظام السياسي القائم في إيران الذي تغلب على جميع المطالب السياسية نحو الديمقراطية والانفتاح، ويرسم لنفسه خريطة طريق تطور سياسي دون أدنى تأثير من الغرب.
في غضون ذلك، يبقى الأساسي من كل هذه التطورات هو كيف تناور إيران للحفاظ على مكانتها وتعزيزها، ثم كيف نجحت في إقناع الآخرين وخاصة الغرب بصعوبة إزالتها من الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط موظفة شتى الأدوات من الأجنحة المسلحة إلى البرنامج النووي. علاوة على هذا، كيف تنظر روسيا والصين إلى هذا البلد.
في كتابه الصادر من سنوات بعنوان «عودة التاريخ ونهاية الأحلام» يتحدث المحلل الأمريكي روبرت كاغان عن المشروع الإيراني كانبعاث أمة تاريخية شأنها شأن الصين مسلحة بمشاعر الكبرياء والتفوق الإقليمي ولن تتخلى عن مشروعها القومي. وكان كاغان يبرز رؤية الدولة العميقة في الولايات المتحدة التي تعتقد في صعوبة ترويض إيران عبر الحل العسكري.
أدركت إيران بعد حرب الخليج الثانية سنة 2003 وسقوط العراق الوحدة السياسية والعسكرية التي تعاني منها والمستقبل المظلم الذي ينتظرها. رآى الإيرانيون كيف لم يرأف الغرب بالعراق مسببا في تدمير بلد من خلال الحصار الاقتصادي قبل الحرب والذي تسبب في مقتل مئات الآلاف وأعاد البلاد سنوات طويلة إلى الوراء. وزاد قلق طهران بحكم غياب دولة كبرى تحميها، وإذا كانت الولايات المتحدة ضمن استراتيجيتها في الشرق الأوسط تحمي إسرائيل، فلا يمكن لروسيا القيام بهذا الدور لإيران بحكم الضعف الذي كانت عليه موسكو بعد حرب الخليج. وكان الحل أمام إيران هو استراتيجية ثلاثية تتجلى في: تطوير برنامجها الصاروخي وترك الغرب حائرا بشأن البرنامج النووي، ونسج علاقات قوية مع أجنحة سياسية-مسلحة في الشرق الأوسط تلتقي معها في الأهداف، وأخيرا استقطاب الصين وروسيا إلى صفها. وبالتالي:
علاقة بالنقطة الأولى، عمدت إيران إلى تطوير السلاح الصاروخي. ونهجت الرؤية السوفييتية السابقة، وهي: أمام التفوق الجوي والبحري الأمريكي، راهن الاتحاد السوفييتي على أنظمة صواريخ مضادة ثم صواريخ الضرب من مسافات متعددة القصيرة والمتوسطة والباليستية وتحولت إيران إلى أكبر قوة صاروخية في الشرق الأوسط قادرة على استهداف أي دولة بدون استثناء. وأقنعت كل من الغرب وإسرائيل بتجنب الحل العسكري نظرا لتكلفته الغالية. وعسكريا، إذا لم تستعمل الولايات المتحدة السلاح النووي، فمن الصعب هزم إيران. وتوجد مؤشرات كثيرة، أعتى الأنظمة المضادة للصواريخ مثل باتريوت والثاد لن تنجح في اعتراض الصواريخ الإيرانية، ويكفي الوقوف على فشل الباتريوت في معظم عمليات اعتراض الصواريخ الحوثية التي تبقى بسيطة مقارنة مع الإيرانية. وعندما أسقطت إيران الطائرة بدون طيار غلوبال هاوك وتجنبت إسقاط طائرة أوريون 8 خلال حزيران/يونيو 2019، ويتمتعان بأعلى مستويات التخفي عن الرادارات، أدرك الخبراء العسكريون الصعوبات التي ستجدها طائرات من نوع ف 35 وب 52 خلال الاقتراب من الأجواء الإيرانية، وبالتالي صعوبة الحل العسكري. والغريب أنه من يتحدث عن الحل العسكري هم المحللون المدنيون في الغرب وليس القادة العسكريين الذين يدركون جيدا تكلفة هذه الحرب غير المضمونة النتائج. في الوقت ذاته، توحي إيران للغرب بتوفرها على أسلحة فتاكة مثل الأسلحة الكيميائية ضمن الردع النفسي. وتؤمن إيران أن لولا توفرها على القوة العسكرية لكانت فريسة سهلة للغرب عسكريا لهذا لن تتخلى نهائيا عن برامجها العسكرية.
فيما يتعلق بالنقطة الثانية، مستغلة تطورات سياسية ومنها تراجع الدول العربية عن مواجهة إسرائيل، نقلت إيران هذه التجربة إلى حركات سياسية-مسلحة. ونجحت في تحويل حزب الله إلى سيف ديمقليس على رأس إسرائيل، فهذا الحزب قادر على خلق حالة بين مزيج من الرعب وسط الإسرائيليين والشلل للحياة العامة بفضل تقنية الصواريخ. ويبدو أن الحوثيين، ورغم الفوارق الجغرافية أي البعد مقارنة بين القرب الجغرافي بين حزب الله وإسرائيل، بدأوا يتحولون إلى سيف ديمقليس آخر ضد العربية السعودية. وتلعب حركة حماس والجهاد الإسلامي الدور نفسه وإن كان بشكل نسبي ضد إسرائيل. وهكذا، فقد قامت إيران بهذه التقنية بتجميد دور دولتين رئيسيتين في الشرق الأوسط إسرائيل والعربية السعودية في حالة شن الغرب حربا عليها بل والحق في التدخل في القضايا الإقليمية.
وتبقى النقطة الثالثة هامة للغاية، فقد نجحت إيران في إقناع الصين وروسيا بالتحدث باسم مصالحها في الأمم المتحدة وأمام المنتظم الدولي لتخفيف الضغط القادم من الغرب. بل ودفعت البلدان إلى القبول بإيران نووية مستقبلا في الشرق الأوسط، حيث أن انضمامها إلى النادي النووي الآسيوي رفقة الهند وباكستان وإسرائيل لن يمس مصالح بكين وموسكو بل مصالح الغرب. وتتويجا لهذه الاستراتيجية، وقعت إيران منذ شهور اتفاقا تاريخيا بجعل الصين وروسيا الحليفين الحقيقيين لإيران ومنحهما خلال 25 سنة معظم الصفقات الخاصة بتطوير البنيات التحتية للبلاد. والآن تجري بلورة المحور الصيني-الروسي-الإيراني ومن تجلياته المناورات البحرية المشتركة في المحيط الهندي، وهي إشارة واضحة من بكين وموسكو بأعلى مستويات الدعم العسكري لطهران في أي نزاع.
هذه هي العوامل التي جعلت إيران قوية طيلة السنوات الأخيرة في معالجة ملفها النووي مع الغرب أساسا رغم آثار الحصار الاقتصادي الخانق عليها، بل وتشبثها بالاتفاق النووي المتعدد الأطراف الموقع عليه منذ سنوات والذي خرقته واشنطن إبان مرحلة الرئيس دونالد ترامب وتعود إليه بشروط الآن بعد فوز الديمقراطي جو بايدن. كما تتميز إيران بضبط النفس، فبعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني، تحدث كثيرون عن رد فعل عسكري شامل، لكن طهران فضلت ردا محدودا لأن مستقبل البلاد لا يقوم على شخص واحد مهما كان وزنه وحجمه بل على منظومة متكاملة لا تسقط في الفخ. وهذا من أبرز عناصر الفكر الاستراتيجي الإيراني.
وهكذا، مزجت طهران طيلة السنوات الأخيرة المناورة الدبلوماسية والردع الدفاعي وحقوقها التاريخية لتؤكد أطروحة: إيران قوة إقليمية في الشرق الأوسط ولاعب جيوسياسي لا غنى عنه في قرارات المنطقة.