الكوميديا السوداء في الأقصوصة عند صبحي الفحماوي

فاطمة الزغول
يلجأ الكاتب أحياناً إلى التعبير عن رفضه للسلبيات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية باستخدام الكوميديا السوداء، وهي الكوميديا التي تعالج التابوهات المسكوت عنها، والتي يهاب الكثير من الناس الخوض فيها، كالحرب، والعنف، والخيانة الزوجية، والإرهاب، والجريمة، وغيرها،فتتم معالجتها بأسلوب ساخر، ممزوج بالغضب والحزن الدافع للبكاء والضحك في آن واحد.
يتعاطى العديد من الكتاب مع مثل هذه المواقف التي تثير استهجانهمورفضهم، بتصويرها في مشاهد قصصية مليئة بالمفارقة والسخرية والإدهاش، ما يثير المتلقي إلى غرابة المشهد، واستنكاره، ومن الكتاب الذين انتهجوا هذا النوع من الكوميديا في كتاباتهم القصصية، الروائي والقاص الأردنيصبحي الفحماوي المولود في حيفا عام 1948م، والذي تعددت إصداراته الأدبية في مجال الرواية، والقصة القصيرة، والأقصوصة، والقصة القصيرة جداً.
بني الكاتب فحماوي العديد من أقاصيصه في المجموعات: قهقهات باكية، وكل شيء للبيع، ومواقف، على أسلوب الكوميديا السوداء، منتقداً العديد من المواقف السلبية المثيرة للغضب والاستنكار، مستخدما اللغة الدارجة، مراوحاً بين العامية والفصحي، ليصل بأقاصيصه إلى الشريحة الأوسع في المجتمع، معريّاً ما استثاره من مشاهد مستنكرة، ومن النصوص التي تمثل الكوميديا السوداء، هذا النص من مجموعة كل شيء للبيع:
عروس
تزوجت مدير فرع بنك، فأثث لعروسه فلّة ساحرة الجمال، ذات حديقة غناء.. وبناء على طلبها،سمح لها أن تؤجر إحدى غرف البيت بالمياومة، بهدف إشغال وقتها مع السياح المتجددين..
في الربيع الذي تلاه، تركت العروس الفلّة، ومدير البنك، وهربت مع أحد الصعاليك المستأجرين للغرفة، إذ جرفها لهيبه، فشعرت أن الحياة ستكون كئيبة من دونه.
استهل فحماوي أقصوصته بعنوان أحادي اسميّ (عروس)، جذب من خلاله المتلقي لحدث اجتماعياعتيادي يحدث باستمرار، وهو الزواج مختاراً العروس،التي تشكل العنصر الأهم في هذا الحدث، عتبة لهذه الأقصوصة.
يصور فحماوي في أقصوصته مشهداً كوميدياً ساخراً لممارسة بشعة تستنكرهاالإنسانية السليمة، وهي الخيانة الزوجية، وزواج المصلحة، فالعروس في هذه الأقصوصة تزوجت مدير البنك الذي أسكنها مبنىً جميلاً، ولكنها خصصت غرفة فيه لممارسة الخيانة الزوجية، التي كشفت تفاصيلها بالهروب مع ذلك الصعلوك الذيارتاد غرفتها المؤجرة،فراق لها بحميميّته، وآثرت الهروب معه،متنكرة لما قدمه الزوج مدير البنك.
استخدم فحماوي في هذه الأقصوصة اللغة الدارجة البسيطة، مبتعداًعن المصطلحات الرمزية العميقة، ليخاطبالشريحة الأوسع من المجتمع الإنساني، كاشفاً بأسلوب ساخر ممارسة يتحرّج الكثير من الناس الخوض فيها.
ومن نصوص الكوميديا السوداء عند فحماوي، هذه الأقصوصة من مجموعته قهقهات باكية:
جاهلية حضارية
جلس يتأمل السفن الحربية والقواعد النووية والصاروخية الأجنبية، التي يضيق بها برّنا العربي، وغيرها التي تملأ بحرنا، فتذكر قول عمرو بن كلثوم الذي يدّعون أنه جاهلي:
ملأنا البر حتى ضاق عنّا وظهر البحر نملؤه سفينا.
فقال لنفسه: متىنتحضر، فنصل إلى عصر الجاهلية؟
تحمل العتبة فيهذاالنص اسماً موصوفاً بصفة مضادة لمفهومه، فالجاهليةهنامتحضرة، ما يثير دهشة المتلقي، ويدفعه لمتابعة النص.
يجسد فحماوي حالة الرفض والاستياء التي يشعر بها المواطن العربي نتيجة انتشار القواعد الحربية الأجنبية في الأراضي العربية، براً وبحراً، مستخدماً شخصية أحادية بضمير الغائب،موظفاً التناص، في استحضار شخصية الشاعر عمرو بن كلثوم من العصر الجاهلي، مستنكراً نعت ذلك العصر بالجاهلية، مستشهداً ببيت شعري لهذا الشاعر يحمل معاني الاعتزاز بالقوة الحربية عند العرب، حيث يفتخر عمرو بن كلثوم في هذا البيت الشعري بالقوة الحربية لقبيلته العربية التي ملأت البر والبحر، في حين يعيش العربي في عصرنا شعور الاستياء والغضب لتواجد القواعد الحربية على أراضيه، ساخراً من هذا الحال، ومتمنياً العودة لعصر الجاهلية، إذ يرى فيه العزة والكرامة والقوة، التي باتت مفقودة.
بنى فحماوي هذه القصة على الجمل الفعلية مراوحاًبين الماضي (جلس، تذكّر)، والمضارع (يتأمل، تضيق، نتحضّر)، لينقل للمتلقي مشهداً من الحاضر، مقروناً بمشهد من الماضي، موظفاً عناصر المفارقة والإدهاش، والتناص، والسخرية، ضمن وحدة موضوعية، مكثّفاً عناصر اللغة، مثيراً سخرية المتلقي ودهشته من غرابة المشهد.
ومن النصوص التي تجسد الكوميديا السوداء هذا النص من مجموعة (مواقف):
قارب الموت
قبل أن ينطلق قارب الموت بالهاربين من جحيم المعارك، دفّعهم القبطان أجورهم، وفي وسط البحر، هاجمتهم عصابة هذا القبطان بطرّادهم، فشلّحوهم ممتلكاتهم، ورموهم في مياه البحر، ثم عادوا معاً لاصطياد دفعة جديدة من المهاجرين.
يحمل عنوان هذه الأقصوصةالمركب من مسد ومسند إليه عنصراً لافتاً، فالقارب الذي اعتاد الناس استخدامه للنجاة، يحمل عنوان الموت المثير للرهبة، فهو (قارب الموت).
يصور فحماوي في هذا النص مشهد للإرهاب الذي تعاني منه المجتمعات الإنسانية في هذا الزمن، في مشهد كوميدي سوداوي، لجماعة من الناس لجأوا إلى القارب هروباً من المعارك وموتها، وإذ بهم يقعون ضحية الإرهاب والموت البشع، فالقاربالذي حسبوه وسيلة نجاة، يتحول بفعل الإرهاب إلى قارب موت محتم بعد تجريدهم من كل الممتلكات، وإلقائهم في مياه البحر.
استطاع فحماوي أن ينقل للمتلقي مشهداً مروّعاً من مشاهد المعاناة التي تعيشها الكثير من المجتمعات الإنسانية التي وقعت بين مطرقة الحرب، وسندان الإرهاب، مستخدماً اللغة الدارجة (شلّحوهم، دفّعوهم)، ليخاطب شريحة واسعة من المجتمع، مستخدماًالعبارات الفعلية المكثفة، وعناصر المفارقة بين الهروب من الموت إلى الموت، في وحدة موضوعية، وضعت المتلقي في قلب الأحداث البشعة المثيرة للضحك الممزوج بالبكاء، على حد قول العرب «شر البليّة ما يضحك»