قراءةٌ في رواية «دفاتر الورّاق» لجلال برجس

رفعة يونس

عرضتْ روايةُ (دفاتر الورّاق)، لجلال برجس، لحيواتِ ضحايا في المجتمعِ، مثقلةٍ بالحزنِ، والمعاناة، والضياع، حيثُ تطرّق الرّوائيّ جلال برجس وبلغتهِ الشّفيفةِ والشّاعريّةِ المعبّرةِ عن كلِّ ذلك من خلال انتقاءِ شخوصهِ وتتبعها منذ الولادة وحتى فقدان الحُلم وتلاشيه في دواخلها أمام سطوةِ الجشع والاستغلال والمصالح الشخصية، عند اصطدامها بصخرة الواقعِ المرير، صوّر لنا الكاتبُ هذه الشخوص ومعاناتها حين فقدان أحلامها حُلماً تلو الآخر، وتبدّد آمالها لتصبح سراباً في عالمٍ قاسٍ لا يرحم، كانت الشخصية الرئيسةُ (إبراهيم) خير مثالٍ للضحيّة الكبرى والذي وجد نفسه منغمساً ومتماهياً في شخوص الروايات التي قرأها وعشقها وتأثر بها، وتمثّل أدوارها كي يواجه ها العالم الغرائبي الذي يعيش فيه، بعد فقدانِ حلمه على يد متسلّطٍ استحوذ على كشكه ومصدر رزقه بجرّةٍ من قلمه، هاهو يعبرُ عالم الروايات ليعيشَ السّلام الداخليّ الذي يبحث عنه، فيرى نفسه في شخوص كثيرة ومنها ديوجين الذي يحمل مصباحه حتى في النهار باحثا عن الفضيلةِ في مجتمع غارقٍ بالآثامِ والفساد والتشويش، إبراهيم هو عنوان ذاك الإنسان الذي يبدأ حياته بريئاً، حالماً، وادعاً، يعيش في بيتٍ متواضعٍ مع عائلته، فيجد نفسه وحيداً بعد فقدان أفراد أسرته واحداً تلو الآخر، وبعد فقدان عمله ومصدر رزقه، في كشكه، وبعد فقدان هذا البيت المستأجر الذي كان يأويه، حتى ضاق به العيش فقرّر الانتحار للخلاص مما يعانيه، لولا ناردا طليقة أبيه والتي كان متزوجا بها سرا، و التي تعرّفت عليه دون أ ن يعرفها، في العقبة، حيث المكان الذي ارتآه لإنهاء حياته، ناردا التي قررت الانتحار، بعد انتحار جاد الله أبي إبراهيم، والذي أنهى حياته بشنق نفسه في بيته بعد خيباتٍ عدة، آخرها قرار ناردا الرحيل عنه، لكنها عدلت عن ذلك في اللحظة الأخيرة، بعد التقائها بإبراهيم الذي عشقها حد الجنون، واحتفظ بمذكراتها بعد أن نسيتها، عانى إبراهيم الكثيير في البحث عنها حتى التقاها بعد جهد جهيد ليعيد لها تلك المذكرات التي ربما نسيتها عامدة متعمدة ليطلع إبراهيم عليها.
شرع إبراهيم بالتفكير والبحث عن سبُلٍ ملتوية لتحقيق حلمه، وأحلام من حوله من الضحايا، فعمد إلى ارتداء القناع وممارسة سرقات للبنوك والفلل، والذي أصبح حديث السوشيال ميديا.. كلّ ما كتب إبراهيم من أوراقٍ هي توضيح لحالته، وحالة الضّحايا من حوله، أراد أن يصل الى السّلام النفسيّ بأية طريقة، إبراهيم المثقف الذي عاش مخاطر وتجاوزاتٍ يرفضها المجتمع ليثبت ذاته، أراد أن ينتفض على آثام هذا المجتمعِ بحقه وحقّ من وقع عليهم هذا الظلم، مثل والده جاد الله، وليلى، وايميلي، ناردا، يوسف، وعاهد، كلهم ضحايا..
جلال برجس من خلال ما عرض من دفاتر هذا الورّاق أراد أن يبين أنّ المجتمع بقوانينه الجائرة، يدفع بالبريء ليصبح مجرما، يدفع بالحالم ِ ليصبح مطلوباً وملاحقا، وأنّ الضّحايا لم يولدوا أشراراً، بل هم اكتسبوا الشرّ من محيطهم الذي لم يوفر لهم جوا مناسبا ليكونوا أسوياء، كما حصل مع ليلى التي وجدت نفسها في ملجأ للأيتام من ولادتها لتدفع ثمن غلطة لأبويها غير الشرعيّين، أرادت أن تحصل على حقها في الحياة لكن أمام عبارة ابنة حرام، أغلقت الأبواب في وجهها كما أغلقت في وجوه صديقاتها وأصدقائها ممن كانوا معها في الميتم، إلى أن عثرت على عملها في بيت ايميلي المقعدة لترعاها وتدير شؤونها، ايميلي هذه أيضا ضحية علاقة مع إياد نبيل هذا المتجبر والظالم، والذي تنكر لها بعد أن تعلقت به وأحبته، واستسلمت لرغباته، هذه العلاقة التي أنجبت منها طفلا تنكر أبوه له وتخلى عنه.. هو يوسف الطبيب النفسيّ الذي كان يشرف على حالة إبراهيم النفسية، والذي كان يتردد عليه من أجل الاستشفاء من كآبته، ومعاناته من بطنه الذي كان يشعر أنه ينتفخ وأن صوتا ما يخرج منه، يحضه على ممارسة الشر، وعلى الهروب بتقمص الشخصيات الرّوائيّة والتماهي فيها، والحث على السرقات، للانتصار لذاته المحطمة.
جلال برجس وضع إصبعه على الجرح في مجتمعنا، على أسبابه، وتلافي ذلك كي لا يسقط من حولنا المزيد من هؤلاء الضحايا، بعلاج تلك الأسباب واجتثاث الشر من مكمنه، لنصل إلى مجتمع نقيٍّ عامرٍ بالحبّ والتآلف، والطمأنينة، والتي دأبت شخوص هذه الرواية للوصول إليه، علينا كمجتمع أن نتمثل ديوجين في أنفسنا بالبحث عن الفضيلة، أن نقدسها في كل سلوكياتنا، وأخلاقنا، لنعيش أفرادا أصحاء فاعلين، نخلو من كبت الحريات، والأمراض النفسية، المستعصية، والمستفحلة.
رواية جلال برجس ( دفاتر الورّاق )، بكل ما قدمته، تستحق كلّ فوزٍ وكلّ التقدير، ويستحق كاتبنا المبدع جلال برجس كلّ الاحترام والإجلال.