المنتصر ..
يصر المحاور على أن يوجه لها سؤالا واحدا هو أقرب لتهمة منه إلى سؤال، وكلما أجابته يعود للنقطة نفسها: «لكنك تناقضين الإسلام في آرائك» تكرر إجابتها مرة أخرى: « أنا أعطيك وقائع تاريخية، مما قرأته من كتب التراث، فأنا أعطيك معلومات» يقاطعها مرة أخرى: «لكنك تقولين كذا وكذا..» وتكرر إجابتها مرة أخرى: «لست أنا من يقول، هذه النصوص موجودة في مراجع إسلامية..».
في حوار آخر تصر المحاورة على أن تطرح سؤالها بالطريقة التالية: «هل تؤمنين بالمثلية؟» فتحاول مرة أخرى شرح وجهة نظرها: «أنا أحلل من وجهة نظر طبية، فأنا طبيبة» فتكرر المذيعة البليدة السؤال بالصيغة نفسها لكن بتركيبة مختلفة: «لكنك مع المثليين، وتشجعين على المثلية.. ما نراه وما نسمعه هو أن الذين حاوروا نوال السعداوي سعوا دوما إلى تشويه صورتها، وهم لا يصغون تماما لأجوبتها، ولا يريدون فهمها، حتى إن بعضهم كان أشبه برجال مخابرات، ولو توفرت بين يديه أدوات تعذيب لانتزع الاعترافات التي يريدها بالقوة والعنف منها. كان لها كل الحق حين صرخت مرة في إحدى المقابلات: «أنا والله قرفت من هذه التهم» وكان يبدو على ملامحها الغضب وخيبة الأمل الكبيرة في أشخاص يطلون على ملايين المشاهدين العرب، وقد سُخِّرت لهم وسائل مهمة لبلوغ العقول العربية والتأثير فيها بالإيجاب، لتغيير واقعها التعيس، لكنّهم اختاروا تكريس الرداءة بكل أنواعها، وطمس العقل بوسائل قمعية لا يستعملها سوى جاهل. ساهمت منابر إعلامية كثيرة في تعطيل العقل العربي، وكذا تفعل مواقع التواصل الاجتماعي، التي كشفت مدى فظاعة ما تخفيه هذه العقول المعطّلة من أحقاد وكراهية وظلامية.
تابعت نوال السعداوي منذ بواكير عمري، وتأثرت بكثير من أفكارها، قبل أن أستقل بأفكاري، وميولاتي وشخصيتي، لقد كانت حافزا لي في عمر معين على إثبات ذاتي كأنثى، وسط مجتمع ذكوري، يحاول عرقلة تقدم الأنثى في حياتها بكل الوسائل المتاحة وغير المتاحة.
دراساتي العليا في القاهرة، سمحت لي بالإطلاع على نفائس الكتب في مكتباتها، والاحتكاك بمثقفيها، وأدبائها، وفنونها، وبلقاء السعداوي في بيتها، بحيث اكتشفت أمامي امرأة بسيطة وصلبة، لا سلاح لها في مواجهة ترسانة من المعارضين في شتى المواقع من القاعدة الشعبية إلى قمّة النظام، سوى إصرارها على الاستمرار.
لقائي الأول بها في القاهرة في بيتها، اختلف بعض الشيء عن لقائي بها كضيفة في برنامجي التلفزيوني، عام 2004 حيث رأيتها بعين مختلفة وعقل أكثر نضجا، وأذكر في ما أذكر أني دعوتها لغرفة الماكياج فرفضت، ما جعلني أصرف المزينة، فإذا بنوال السعداوي قبل الهواء بعشر دقائق تطلب أحمر شفاه، وبين حيرتي أن أعيرها قلم حمرتي، أو استدعي المزينة من جديد أردفت «أنا عايزة روج، وعايزة كحل مثلك» حسمت أمري وطلبت المزينة التي اجتهدت لوضع ماكياج خفيف لها. حينها قلت لنفسي أواه ما أشبه المرأة بالمرأة، وعرفت أن ليس كل ما يقوله الكاتب حقيقيا، وهذا ليس غلطا، فالمرأة هي المرأة.
في بداية حلقتي كانت هذه الحادثة الغريبة مدخلا لحوارنا، واجهتها أني قرأت لها في حوارات كثيرة رفضها للماكياج، «أنا لا أحب الماكياج، لا أحب أحمر الشفاه، لا أحب التبرج، أنا امرأة جميلة» فما الذي غيّر فكرتها وهي في حضرة برنامجي؟ هل استيقظت المرأة فيها؟ لتجيب ضاحكة «أنا امرأة» وأعتقد كتفسير خاص أنها أمامي لم تواجه ما يستفزها، كنت بروين حبيب التي تتلمذت على كثير من أفكارها، وتشبعت بها، دون فقد ما يسعدها كأنثى. أعتقد وهذا رأيي الخاص، أن السعداوي عوملت بعدائية زائدة حتى بالغت في إخفاء أنوثتها، لهذا فقد تحوّلت لمقاتلة متأهبة دوما لحرب ما، كون الأغلبية الساحقة تعاملت معها كعدو، لا كمفكرة يمكن مناقشة أفكارها ورفضها، دون اللجوء لخطاب العنف اللفظي، الذي وجدت نفسها في مواجهته حتى في عرضها لأفكار علمية محضة، مثل مطالبتها بإيقاف عملية الختان للإناث، التي لم تكن سوى جريمة في حق الإناث، تأجل منعها عشرات السنين، شارك فيها للأسف أطباء ورجال علم خوفا من المجتمع والهيئات الدينية والسياسية التي كانت ترى في ذلك الأمر خرقا للموروث الاجتماعي المغلف برداء ديني.
للذين يعتقدون أن نضال نوال السعداوي الطويل انتهى دون تحقيق النتائج المرجوّة، ليتذكّر ملايين النساء اللواتي أنقذتهن من الختان، بعد أن غير الأزهر رأيه، وأقرّ بضرره وأنّه ليس من الشعائر الدينية، وتم تعديل القانون، بحيث أصبح ختان الإناث جريمة يعاقب عليها.
كتبت السعداوي مذكراتها في السجن بقلم الكحل على ورق الحمام، ويبدو أن قلم الكحل بالنسبة للسجان ليس سلاحا يخاف منه، لأنه في تصوره مرتبط بزينة النساء، فتعامل معه باستخفاف. هكذا مررت رسالة قوية تؤكد أن جمال المرأة لا يعني أنها غبية، بعد أن اهتز البلد بصدور مذكراتها. كما سوّقت لأفكار جمالية لم تستلطفها المرأة العربية إلا متأخرة، مع أنها اعتُبِرت موضة تميزت بها نساء شهيرات في الأوساط الفنية العالمية، مثل الشعر الأبيض، والحذاء دون كعب، لكن السعداوي في زمانها كانت موضع سخرية حتى من النساء أنفسهن.
في غيابها اليوم علينا أن نعترف بكل موضوعية، بأنها دافعت عن حقوق وكرامة المرأة، وانتصرت لها غير آبهة لردود الأفعال السلبية تجاهها، لكن رغم أنّها الكاتبة العربية الأكثر ترجمة للغات العالم، إلاّ أنها من وجهة نظري ومقاييسي الخاصة، وبعد أن تفتحت مداركي وتوسعت دائرة قراءاتي، وبعد أن قرأت لمن تفوق عليها من النساء المفكرات، مثل فاطمة المرنيسي، لكن ما ميّز نوال السعداوي أنها أسست لحراك اجتماعي قوي، ولا أدري بالضبط لماذا، هل لأنها مصرية؟ أم لأنها جاءت من جذور صعيدية؟ أم لأنها تحدثت في أكثر الموضوعات حميمية، بحكم وظيفتها كطبيبة متجاوزة فكرة التابو والمسكوت عنه، لقد حققت انتشارا عجيبا، لكن كأديبة لم أجد في كتابتها الأدبية ما يثير إعجابي، نصوصها الروائية والقصصية أقل من عادية، بل إني أجد أن صياغتها لأفكارها أدبيا قلل من قيمتها، لقد خانتها اللغة. وإن قالت في مواضع كثيرة، أنها تجاوزت قاسم أمين وهدى شعراوي ودرية شفيق، وسهير القلماوي، وآخرين في المطالبة بحقوق النساء، فإنها هي الأخرى تظل فترة مهمة من مسار التحرر النسوي، الذي لا تتوقف نساء عربيات عن تغذيته باستمرار بأسماء جديدة، لتصطدم للأسف بالاتهامات نفسها من تكفير وتحقير لمنعهن من الانتشار، مع أن أغلبهن نادين مثل السعداوي «بتخليص الإسلام مما علق به من بعض الموروثات التراثية، التي احتقرت المرأة، ونادين بتنقيحه من مظالم لا تليق به كدين يقوم على العدالة الاجتماعية والتساوي في الثواب والعقاب».
من بين أغرب ما تعرّضت له نوال السعداوي من ظلم، إقدام محام برفع قضية لتطليقها من زوجها شريف حتاتة، عام 2001 باعتبارها مرتدة، وكان عمر زواجها آنذاك سبعا وثلاثين سنة، من حسن حظها أن القضاء لم يتجاوب مع ذلك الطلب الغريب، ولم يسمح بتكرر المهزلة التي كفّرت المفكر نصر حامد أبوزيد وحكمت بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس.
عنونت صحيفة «الغارديان» البريطانية خبر غيابها بـ»ناشطة نسوية وكاتبة مصرية قاتلت ضد النظام الأبوي والفقر» وختمت مقالها الطويل عن مسيرتها العظيمة بجملة مؤثرة: «نجت بسبب ابنتها وابنها». كما ذكرت شبكة «سي أن أن» في نعيها أن السعداوي شاركت في ثورة 2011 وقالت :»لا يمكننا الحديث عن ثورة دون نساء، كما لا يمكن تحرير المرأة في مجتمع طبقي وذكوري، لذلك يتعين علينا التخلُّص من الاضطهاد الطبقي والقمع الجنسي والقمع الديني». للذين يعتقدون أن نضال نوال السعداوي الطويل انتهى دون تحقيق النتائج المرجوّة، ليتذكّر ملايين النساء اللواتي أنقذتهن من الختان، بعد أن غير الأزهر رأيه، وأقرّ بضرره وأنّه ليس من الشعائر الدينية، وتم تعديل القانون، بحيث أصبح ختان الإناث جريمة يعاقب عليها.
اعتبرتها مجلّة «التايم» واحدة من بين أكثر مئة امرأة نفوذا وتأثيرا في العالم.
بروين حبيب
شاعرة وإعلامية من البحرين