من الجنس ما قَتَل"... أجهزة الاستخبارات و"مصائد العسل"
في كتابها الصادر عام 2017 بعنوان "الجاسوسات يحكين"، نقلت كلوي أبرهاردت عن مسؤول سابق في الاستخبارات الفرنسية اختار اسم "إدموند بيرونجي"، قوله لها: "يرتّب الأمريكيون دوافع خيانة فرد ما لبلده كالآتي: المال، الإيديولوجيا (سياسية/ دينية)، الضغط (الاستغلال الجنسي أو الابتزاز بالفضيحة) والكبرياء (أو الغرور والمكابرة)".
بعد مضي سنة على اعتقالها، أعلنت وزارة العدل الأمريكية موخراً، في 26 آذار/ مارس 2021، توجيه تهم تسريب معلومات حساسة تخص الولايات المتحدة لفائدة جهة أجنبية، لمترجمة متعاقدة مع وزارة الدفاع (البنتاغون) تُدعى مريم طه طومسون، وتبلغ من العمر 63 سنة.
تعود بدايات القضية إلى كانون الأول/ ديسمبر 2019، عندما عمدت مريم إلى الدخول إلى عشرات الملفات التي لم تكن بحاجة للاطّلاع عليها، ما أثار ريبة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، فشرعت في إجراء تحقيقات إلى أن قبضت عليها يوم 21 آذار/ مارس 2020، على خلفية استغلال "روميو" لبناني علاقة غرامية جمعتها به أو أوهمها بوجودها للحصول على معلومات تخص هويات متعاونين ومخبرين عراقيين يتعاملون مع الأمريكيين في شمال العراق، لفائدة حزب الله اللبناني.
على ما يبدو، وقعت مريم ضحية عملية تجنيد على طريقة "مصيدة عسل" Honey trap، وتواجه الآن تهمة الخيانة العظمى التي تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة.
قصة مريم تعيد إلى الأذهان قصص التخابر الناعم، أو الجنس المخابراتي، الذي عرفته المنطقة العربية، وعاشت كثيراً على إيقاع هزّاته.
مصيدة العسل... الفخ الذهبي للمسؤولين
لم تكن السنوات القليلة التي أعقبت سقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة بانتصار المحور الغربي إلا استراحة محارب وفرصة لترتيب البيت الاستخباري لمكونات حلف وارسو وخصومهم.
سنة 2012، نشر جايمس بي والش ورقة مع الجامعة العسكرية الأمريكية بعنوان "خلف الأبواب المغلقة: جنس، حب وتجسس"، تحدث فيها عن جذور الجنس المخابراتي Sexpionage الذي يُعَدّ الأداة المفضّلة لأعداء الأمريكيين في العصر الحديث: الروس.
"أعلم أن عاملات الجنس الروسيات هنّ الأجمل في العالم، ولا أعتقد أن (الرئيس الأمريكي دونالد) ترامب سيقع في فخ كهذا". هكذا أجاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ساخراً على سؤاله عن صحة فيديو يُزعَم أنه التُقط لدونالد ترامب رفقة مجموعة من الشابات الروسيات وهنّ بصدد التبوّل على سرير كان قد نام عليه الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، في أحد فنادق موسكو، وذلك أثناء حضور ترامب لمسابقة جمال الكون سنة 2013.
هو فيديو ابتزازي انطلق الحديث عن وجوده منذ عام 2017 ولا زال، ويقول أصحاب هذا الزعم إنه كان ورقة بيد بوتين يبتز بها ترامب.
يفسر والش في ورقته المذكورة عودة استعمال الجنس للتجسس والابتزاز بالتطور التكنولوجي في مجال مكافحة التجسس، ما دفع أجهزة الاستخبارات إلى إحياء الوسائل التقليدية.
"بدون نساء، لن تكون هناك استعلامات. أنا نسوي وفي. لا أتحدث إيديولوجياً، لكن عن تجربة". هذا ما قاله مسؤول سابق في جهاز الموساد الإسرائيلي اختار اسم "داني" لكلوي آبرهاردت.
لا يقتصر الأمر على استغلال الإناث فقط لأداء المهمات التجسسية. حسب معجم الجاسوسية السوفياتي، تُسمّى الجاسوسات "سنونوات"Swallows والجواسيس الذكور "غرباناً" Ravens. بينما درج استعمال اسم روميو Romeo spies في جهاز الاستخبارات الألماني الشرقي (شتازي).
والفكرة المشتركة تقوم على اعتماد مجموعة من العملاء يتوفر فيهنّ/ فيهم عادة قدرٌ مغرٍ من المؤهلات الجسدية تساعد في الإيقاع بالأهداف التي تحددها لهم إداراتهم بناء على عدة معطيات مثل: الموقع والخطة الوظيفية، الهشاشة والقابلية للاختراق، الميول الجنسية والاستقرار العاطفي/ النفسي. ويشرف على هؤلاء جاسوس محترف برتبة "مؤطر" أو "مكوّن جواسيس" Spymaster، أو "عَمّ" Uncle كما جاء في حكاية موريس أولدفيلد التي تداولتها الصحف البريطانية سنة 2016.
"يرتّب الأمريكيون دوافع خيانة فرد ما لبلده كالآتي: المال، الإيديولوجيا (سياسية/ دينية)، الضغط (الاستغلال الجنسي أو الابتزاز بالفضيحة) والكبرياء (أو الغرور والمكابرة)"
مع تغير بوصلة الصراع بين أقطاب العالم: روسيا، الصين والولايات المتحدة وحلفائها، ونظراً إلى المياه الجيوسياسية المتحركة، صارت المعارك تدور بين مكاتب مراكز التجارة والمال.
عام 2010، وزّع جهاز المخابرات الداخلية البريطانية MI5 (نظير جهاز "أف بي آي" الأمريكي) إرشادات لموظفي المصارف والشركات الكبرى حول ضرورة توخي الحذر من الوقوع في مصائد العسل الصينية والروسية... لكن يبدو أن نار الشهوة، أو الخطيئة الثالثة حسب الترتيب الكاردينالي، ومن ورائها الغريزة البشرية، أقوى من كل تحذير.
قد تبدو هذه القضايا والسرديات أقرب إلى الخيال الروائي منها إلى الحقيقة، خاصة إذا ما اعتبرنا أن ما تم تداوله من أخبار وروايات إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي وحلفائهما كثيراً ما أتى في إطار البروباغندا والبروباغندا المضادة.
لكن رغم مضي أكثر من ربع قرن على انتهاء الحرب الباردة، لا زالت قصص الاختراق الناعم تملأ صفحات المواقع العالمية إلى اليوم، بل وتتطور بتقدم الأيام، إذ صارت تعتمد على خوارزميات التطبيقات لتحديد ميولات الأفراد عبر ما تجمعه من بيانات "كوكيز"، ومن ثم توجَّه شراك الغواية عبر تطبيقات التعارف، وفق ما جاء في تقرير نشره موقع "بوليتيكو"
تعالَ إلى حضني في سبيل الله والوطن
عندما يتعلق الأمر بالمخابرات العربية، كل رواية هي حقيقية ومختلَقة في الوقت ذاته. يبدو أن السلطات العربية أجمعت، ويا المفارقة، على منع استيراد مفهوم الشفافية مع باقي المؤسسات والمفاهيم السياسية، لـ"دواعٍ أمنية".
تعمد الحكومات الديمقراطية عادة على الإفراج عن محتويات أرشيفاتها، وفقاً لتراتيب مقننة، تتراوح بين 30 إلى 50 عاماً، حسب خطورة وحساسية الوثائق. لكن في الدول العربية يبقى كل شيء في علم الغيب.
"بدون نساء، لن تكون هناك استعلامات"... التطور التكنولوجي في مجال مكافحة التجسس دفع أجهزة الاستخبارات إلى إحياء الوسائل التقليدية: مصائد العسل
إلى حد هذه الأيام، لا تزال حكاية عميلة الموساد هبة سليم تحفّز خيال الكثيرين من الصحافيين وصانعي المحتوى، رغم قصر حياتها (26 سنة). رُويت الكثير من السرديات حولها، كقصة فيلم "الصعود إلى الهاوية". لكن تظل رواية الضابط رفعت جبريل، مع الصحافي محمد سيد صالح، سنة 2009، أبرزها.
مستغلةً عشق الضابط في فرقة الصاعقة، فاروق الفقي، وهيامه بها أيام صباها، نجحت سليم في تجنيده لصالح الموساد الإسرائيلي الذي حصل عبرهما على معلومات مهمة بخصوص أماكن تركيب وتركيز منصات صواريخ سام 6 التي اشترتها مصر من الاتحاد السوفياتي وبنت بها جداراً دفاعياً، تحضيراً لحرب 6 أكتوبر 1973.
قُبض على الشابة وأعدمت عام 1974، فيما لا تزال قصص كثيرات كأمينة المفتي، وانشراح موسى، تنتظر أن ترى النور على غرار قصة شولا كوهين، "لؤلؤة إسرائيل" التي كانت تستقي المعلومات من كبار المسؤولين اللبنانيين الذين كانت تستضيفهم في حفلات وردية خاصة تقيمها في بيروت.
ولكن لكل قاعدة استثناءات. في إطار الاستدراج ونصب المصائد الحمراء، وحسب ورقة بحثية صادرة عن "المركز الدولي لدراسة التطرّف العنيف" (ICSVE)، قام جهاز "أف بي آي" وأجهزة ألمانية بانتداب دانييلا غرين للإيقاع بمغني الراب الألماني ديزو دوغ Deezo Dogg الذي انضم عام 2014 لتنظيم داعش الإرهابي واشتهر بما ينشره من فيديوهات حماسية جهادية.
كانت الخطة، حسبما جاء في الورقة، كذلك في مقال لـ"سي أن أن" تقوم على استدارج دانييلا لديزو عبر إيهامه بقصة حب، أي مصيدة عسل تقليدية، ومن ثم الاتفاق على اللقاء في تركيا حيث كان من المبرمج أن تلقي السلطات الأمنية القبض عليه. لكن على عكس ما كان متوقعاً، سافرت غرين إلى سوريا وتزوجت بفريستها المفترضة.
وفي شباط/ فبراير 2020، نشرت عدة مواقع صحافية غربية، مثل "فوربز"، "بي بي سي" و"وول ستريت جورنال"، ما نشره الجيش الإسرائيلي عن استهداف حركة حماس الفلسطينية لمئات من جنوده من خلال "مصائد عسل رقمية". كانوا يوهَمون بالدردشة الافتراضية مع فتيات ويتشاركون الصور، ومن ثم تُخترَق هواتفهم عبر تحميل تطبيقات تجسس تمكّن الهاكرز الفلسطينيين من الولوج إلى ما فيها من معلومات، مع إمكانية اعتراض المكالمات وفتح الكاميرات... وبهذا نتحصل على النسخة الإسرائيلية-الفلسطينية من حروب الجيل الرابع.
أمور كثيرة تحدث باسم مشاعر نبيلة كالحب. وراء ما سبق من عمليات، تختبئ الكثير من الأحاسيس التي قد نغفل عنها: خفقان القلوب والمشاعر، وأخيراً الخيبات.
جوسسة وجوسسة مضادة، تحيّز وتحرٍّ واختراق... مَن الرابح ومَن الخاسر؟ هل هي الجاسوسة الفاتنة؟ هل هو الضحية العاشق؟ على أن مصير أغلب بيادق اللعبة ينتهي غالباً إلى حقيقة واحدة: الموت. تجلٍّ آخر لقول الأصمعي: ومن الحب ما قتل. وربما يمكننا القول: من الجنس ما قتل