حفتر يرفع راية التحدي في وجه حكومة الوحدة رغم اعترافه بها

أثارت أحداث الأيام القليلة الماضية علامات استفهام مقلقة بشأن الأوضاع على الأرض في ليبيا، مع إصرار خليفة حفتر على استمرار الانقسام بين الشرق والغرب، رغم اعترافه بالسلطة الموحدة الجديدة في البلاد، فإلى أين تتجه الأمور؟

القصة تتعلق بالمسار السياسي الذي وضع نهايةً للصراع الدموي بين الشرق والغرب، وأدى لوجود سلطتين متنازعتين، واحدة في الغرب ممثلة في حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، والثانية في الشرق ممثلة في الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، زعيم ميليشيات شرق ليبيا، الذي يصف نفسه بأنه القائد العام للجيش الليبي، وأدى فشل محاولة حفتر السيطرة على العاصمة طرابلس من خلال هجومه عليها مطلع أبريل/نيسان 2019، وهزيمته، ومن ثم تقهقره إلى مقره في بنغازي إلى التوصل لوقف لإطلاق النار في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وانطلاق المسار السياسي تحت رعاية الأمم المتحدة.

ونتج عن ذلك المسار (ملتقى الحوار الليبي) انتخاب سلطة جديدة لقيادة البلاد، في مرحلة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، في ديسمبر/كانون الأول المقبل، وتشكلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة والمجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، وصدّق البرلمان على تشكيلة الحكومة وتسلمت مهامها من حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج في طرابلس، وكذلك الحكومة الموازية في الشرق برئاسة عبدالله الثني.

ماذا يحدث على الأرض؟
رغم اعتراف حفتر بالسلطة الجديدة في ليبيا، التي تحظى بالدعم المعلن من اللاعبين الإقليميين والدوليين في الصراع الليبي -وبخاصة تركيا الداعم لحكومة الوفاق الوطني السابقة ومصر الداعمة لخليفة حفتر- فإن أحداث الأسبوع الماضي كشفت بوضوح أن الانقسام بين الشرق والغرب لا يزال قائماً.

فالأحد الماضي أعلن الدبيبة إلغاء زيارته إلى بنغازي لعقد الاجتماع الأول للحكومة هناك، بعد أن منعت قوات حفتر هبوط طائرة تحمل أفراد الحماية والمراسم التابعين للحكومة الجديدة، لكن البيان الذي صدر عن قوات حفتر لتوضيح سبب المنع هو ما يثير القلق، بحسب مراقبين.

فقد قالت قوات حفتر، في بيان لها: "رغم أن القيادة العامة لا يربطها أي رابط بحكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، فإنها ترحب بعقد اجتماع مجلس وزراء الحكومة المؤقتة في أي منطقة من المناطق التي تؤمّنها، خاصة في مدينة بنغازي".

والمقصود بالقيادة العامة في هذا البيان هي قيادة قوات حفتر، التي لا تزال تطلق على نفسها "القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية"، وهو ما يتعارض مع مخرجات المسار السياسي وما تم الاتفاق عليه، حيث يحمل رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي صفة "القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية"، بينما يحتفظ رئيس الحكومة الدبيبة بمنصب وزير الدفاع.

الدبيبة ليبيا بنغازي
رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبدالحميد الدبيبة/ رويترز
وتم الاتفاق على هذا السيناريو الخاص بالجيش حتى تنتهي لجنة التنسيق العسكري المعروفة بـ5+5 (تتكون من ضباط من الغرب والشرق) من عملها الذي يهدف إلى توحيد المؤسسة العسكرية الليبية بين الشرق والغرب وإخراج الميليشيات والمرتزقة الموجودين على الأراضي الليبية، حيث يطالب حفتر بإخراج من يصفهم بالميليشيات السورية والقوات التركية، بينما لا يأتي على ذكر مرتزقة فاغنر الروس ولا الميليشيات المتعددة التي تقاتل إلى جانبه.

والغريب هنا هو أن حفتر كان قد أعلن على لسان الناطق باسم قواته، في 6 فبراير/شباط الماضي، ترحيبه بانتخاب السطلة الموحدة الجديدة في البلاد، ورغم ذلك لا يزال يعمل بمعزل تام عن الحكومة الشرعية، ويواصل قيادة ميليشيات مسلحة، مطلقاً على نفسه لقب "القائد العام للجيش الليبي"، في تجاهل كامل للقائد الأعلى للجيش رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي.‎

ليس هذا وحسب، بل اشترطت قواته التنسيق مع وزارة الداخلية وأجهزتها في مدينة بنغازي "وعدم نقل عناصر من مدن أخرى تسيطر عليها الميليشيات والفوضى الأمنية"، بحسب البيان الصادر عنه.

كيف رد الدبيبة على حفتر؟
واليوم الأربعاء 28 أبريل/نيسان، طالبت قوات حفتر عبدالحميد الدبيبة بتقديم اعتذار "صريح وواضح"، عن تصريح قال فيه إن "بنغازي ستعود إلى حضن الوطن". في إشارة إلى تصريح للدبيبة، الخميس الماضي، خلال لقاء جمعه بمُهجرين من بنغازي، في جولته بشوارع طرابلس، قال فيه: "بنغازي ستعود للوطن وأنتم ستعودون إلى أهلكم".

بيان قوات حفتر زعم أن "القيادة العامة تؤكد أنها تلقت المئات من الطلبات من مختلف شرائح المجتمع وعلى مستوى ليبيا ومن جميع القبائل وأسر الشهداء والجرحى، بضرورة تقديم رئيس الحكومة السيد عبدالحميد الدبيبة اعتذاراً صريحاً وواضحاً عما بدر منه، عندما ذكر الأسبوع الماضي أن بنغازي ستعود إلى حضن الوطن"، معتبراً أن هذه التصريحات مرفوضة، وأنه يجب على الدبيبة "احترام وتقديس دم الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم ضد الإرهاب والتطرف".

الغريب أن بيان قوات حفتر المطالب باعتذار الدبيبة صدر بعد يوم من تصريح الأخير بأن حكومته ستزور بنغازي قريباً، للوقوف على احتياجات أهالي المدينة، مضيفاً في كلمة له في الاجتماع الثالث للعام الجاري لمجلس الوزراء في طرابلس، أمس الثلاثاء، أن الحكومة لن تترك بعض "العقبات البسيطة"، حسب وصفه، تحولُ دون خدمة الليبيين كافة.

النسيج الاجتماعي في ليبيا
ليبيا بين الشرق والغرب
حديث الدبيبة عما سمّاها العقبات البسيطة، تعليقاً على منع هبوط طائرة العاملين في المراسم، ومن ثم إلغاء زيارته لبنغازي، ينم، بحسب محللين، عن رغبة السلطة الجديدة في تفادي الصدام مع حفتر الذي يبدو أنه يريد دفع الأمور دفعاً نحو الصدام مع السلطة الجديدة، في تكرار لما فعله مع حكومة الوفاق الوطني من قبل، ومن ثم إفشال المسار السياسي.

وقد وصف إبراهيم أبوجناح، نائب رئيس الحكومة منع انعقاد اجتماع الحكومة في مدينة بنغازي الخاضعة لسيطرة ميليشيات حفتر، بأنه "سعي لاستمرار حالة الانقسام"، وذلك في بيان نشره أبو جناح عبر صفحته على "فيسبوك"، في أول تعليق رسمي من مسؤول حكومي رفيع المستوى على الحادثة.

وقال أبوجناح: "من المؤسف أن يسعى أي طرف لاستمرار حالة الانقسام السياسي، وتفكك الدولة وابتزاز مؤسساتها". وأضاف: "ينتابنا القلق من أن تمثل حادثة منع انعقاد اجتماع حكومة الوحدة الوطنية الفرصة لمن يسعى لانهيار العملية السياسية في ليبيا"، كما أكد أن موقف الحكومة "الداعم للاستقرار يزداد صلابة كلما تعرضت العملية السياسية في ليبيا لمحاولات إفسادها وإيقافها".

ماذا عن موقف مصر وتركيا؟
لا يمكن قراءة ما يجري على الأرض في ليبيا بمعزل عن مواقف أنقرة والقاهرة بالأساس، خصوصاً أن انطلاق المسار السياسي وتشكيل السلطة الجديدة لم يكن ليتم دون تنسيق بين الدولتين، وهو ما انعكس في التهدئة الواضحة بينهما مؤخراً، والآن ينتظر أن يصل وفد تركي رفيع المستوى إلى القاهرة قريباً في أول زيارة رسمية بين البلدين، منذ القطيعة بينهما قبل سنوات.

وفي هذا السياق كانت مصادر خاصة قد كشفت لموقع "عربي بوست"، أمس الثلاثاء، تفاصيل خطة مصرية تسعى القاهرة من خلالها لاستعادة الهيمنة على المشهد في ليبيا، ليس فقط في الشرق، بل حتى في مناطق غرب ليبيا، وذلك تحت إشراف حفتر.

وبحسب المصادر، باتت الرؤية المصرية واضحة الأهداف والمعالم فيما يخص الاستحقاق الانتخابي القادم في شهر ديسمبر/كانون الأول 2021، بالإضافة إلى سعيها الحالي للهيمنة واستعادة النفوذ الذي فقد في السنوات القليلة الماضية، إذ كشف مصدر مقرب من القيادة العامة التابعة لحفتر عزم القاهرة دعم رجل شرق ليبيا القوي للترشح للانتخابات الليبية المقبلة، وتعيين رئيس الأركان التابع لبرلمان طبرق الفريق عبدالرزاق الناظوري حاكماً عسكرياً بديلاً عنه.


الإمارات تمول مرتزقة روسيا في ليبيا/رويترز
وأوضح المصدر أن الرئاسة المصرية تضغط على الأطراف الليبية لتحقيق استحقاق الانتخابات في موعدها، 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، على أن تكون انتخابات رئاسية وليست برلمانية، لمنح التصويت بشكل مباشر على حفتر، وأشار إلى أن المخابرات الحربية المصرية نجحت في حل الخلاف السابق بين رئيس الأركان العامة التابع لبرلمان طبرق الفريق عبدالرازق الناظوري وخليفة حفتر.

لكن ربما تقف تصرفات حفتر الأخيرة وإصراره على استمرار الانقسام بين والشرق والغرب عقبة كبيرة على طريق وصول البلاد إلى الاستحقاق الانتخابي بنهاية العام، إذ يخشى كثير من المراقبين من خروج الأمور عن السيطرة في أي من تلك المواقف، التي باتت أقرب لحرب تكسير عظام بين السلطة الجديدة المعترف بها من جميع الأطراف من جهة وبين حفتر المتمرس في الشرق من جهة أخرى.

فعلى الرغم من وجود عقبات عديدة تواجه حكومة الدبيبة في هذه المرحلة، يظل توحيد المؤسسة العسكرية وإخراج المرتزقة التحدي الأبرز، وفي هذا السياق كان المنفي قد أصدر -بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة- قراراً بمنع سفر العسكريين ذوي المناصب الرفيعة خارج البلاد، أو الإدلاء بأي تصريحات إعلامية دون إذن منه، وهو ما لم يلتزم به حفتر وضباطه بشكل واضح.

الخلاصة هنا هي أنه رغم التفاؤل الحذِر الذي خيَّم على المشهد الليبي في أعقاب تسلُّم السلطة الجديدة مهامها، في ظل الدعم المعلن من جميع الأطراف، يبدو أن العقبة الرئيسية لا تزال حفتر وطموحه في فرض نفسه كحاكم عسكري على عموم ليبيا، ويرى أغلب المراقبين أن الحوار بين مصر وتركيا يمثل حجر الزاوية في التغلب على تلك العقبة.