المسألة الفلسطينية ليست معادلة حسابية

لخّصت «القدس العربي» في عددها أمس مقالة نشرت في صحيفة «التايمز» البريطانية بعنوان: المستفيد الوحيد من المواجهة الحالية في القدس وغزة هي إيران، كما أنها عنونت افتتاحية صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية حول الأحداث الجارية في فلسطين بأن «المستفيدين من المواجهة الإسرائيلية ـ الفلسطينية الجديدة هما حماس ونتنياهو».
يمثّل هذان الموقفان رؤية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي تناهض مفاهيم التاريخ والحضارة البشريين حول حقوق الإنسان الأساسية، وحقوق الشعوب في التحرر من الاستعمار الخارجي (ودرجته العليا: الاستيطان الإحلالي) والاستبداد الداخلي، واختصارها في مسائل تقدّر من يستفيد (أو من يتضرّر) فحسب.
تقوم آراء أخرى باحتساب عدد الشهداء الهائل الذي يتكبّده الفلسطينيون كلّما هبّوا للدفاع عن حقوقهم، وهو حساب يظهر فيه الفارق الكبير في الضحايا والخسائر، ففي حرب إسرائيل الأولى على قطاع غزة عام 2008 استشهد أكثر من 1436 فلسطينيا، فيما قُتل 13 إسرائيليا، وفي الحرب الثانية عام 2012 استشهد 155 فلسطينيا وقُتل ثلاثة إسرائيليين، وفي الحرب الثالثة عام 2018 استشهد 2174 فلسطينيا فيما قتل 70 إسرائيليا.
تقدّم هذه الصورة الرقميّة الكفاح الفلسطيني في معادلات حسابية تتلخص فيمن يستفيد ومن يخسر، وبذلك تقوّض المبدأ الإنسانيّ الذي تمكنت البشريّة عبره للتحضّر والارتقاء، عبر السعي المتواصل، الشديد الكلفة والدموية، نحو عالم أكثر عدالة، لا يقبل احتلال شعب لآخر، أو استبداد طغمة بمقدّرات شعبها.
لا تستطيع هذه النظرة الحسابية للعالم استيعاب كيف تجرأ شعب صغير مثل الفيتناميين على مجابهة الاستعمارين الفرنسي ثم الأمريكي (وهزيمة الصين في حرب سريعة) أو كيف اعتقد نلسون مانديلا وحزبه الصغير أنه يستطيع أن ينتصر في حرب ضد استعمار استيطاني غربيّ مسلّح في جنوب أفريقيا.
ليس هناك شعب في العالم لا يحمل في ذاكرته وتاريخه هذا النزوع الإنسانيّ المستمر نحو الحرّية، وتختزن كل أمم الأرض، بما فيها الأمم الأقوى حاليا، تواريخ الحروب الأهلية والهزائم والنكبات التي تعرّضت لها، ولا يحتاج المرء أن يكون مؤرخا لمعرفة أن الانتصارات الآنية للقوى الباطشة تتحوّل، في أحيان كثيرة، بفعل عوامل شتى، إلى هزائم تاريخية، وذلك لأن التاريخ لا يخضع للمعادلات الحسابية فحسب.
لا تستطيع هذه الفكرة الجامدة عن التاريخ فهم النضال الفلسطيني نفسه، الذي تعرّض لنكبة كبرى عام 1948، وتعرّض للاحتلال مجددا بعد هزيمة الجيوش العربية (مجددا) عام 1967، لكنّه قام مباشرة بتحدّي الجيش الإسرائيلي المنتصر في معركة الكرامة عام 1968، ثم قام بالانتفاضة تلو الأخرى، ليتعلّم، في كل مرة، دروس المعركة التي سبقتها، ويقوم بالاستعداد لأخرى، وليكون في ذلك، ملهما لغيره من الشعوب العربية التي لا تزال ترى في نضال الفلسطينيين، إلهاما لنضالها ضد الاستبداد، ومعينا لها على تحمّل كوارث الطغيان.