تركيا تنسحب رسمياً من “اتفاقية إسطنبول”

انسحبت تركيا رسمياً، الخميس، من اتفاقية إسطنبول المعنية بحماية المرأة من العنف، وذلك مع دخول قرار الانسحاب الذي اتخذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أشهر حيز التنفيذ فعلياً وهو ما فتح الباب واسعاً مجدداً أمام الجدل الداخلي والخارجي، في حين دافع أردوغان عن القرار معتبراً أن "كفاح تركيا للعنف ضد المرأة لم يبدأ ولن ينتهي مع الخروج من اتفاقية إسطنبول”، وسط تظاهرات احتجاجية نظمتها جمعيات وهيئات تدافع عن حقوق المرأة في محافظات تركية مختلفة.  وفي آذار/مارس الماضي قررت تركيا الانسحاب من الاتفاقية وذلك عقب سنوات من الجدل الداخلي المتصاعد بين المحافظين الذين عارضوا الاتفاقية بحجة "دعمها المثلية الجنسية ومساهمتها في تفكيك الأسرة والمجتمع”، وبين معظم أحزاب المعارضة وممثلي الجمعيات الحقوقية الذين دافعوا عنها بقوة معتبرين أن الانسحاب منها سوف يفتح الباب أمام المزيد من العنف ضد المرأة الذي تزايد بشكل لافت في السنوات الأخيرة.  ورفضت المحكمة الإدارية العليا في تركيا الثلاثاء مسعى لإلغاء القرار، معتبرة أن لدى أردوغان "السلطة” التي تخوله اتخاذه بعدما حاولت جمعيات وهيئات حقوقية الطعن بالقرار بالقول إن الاتفاقية التي وافق عليها البرلمان التركي بالأغلبية لا يمكن للرئيس الانسحاب منها بقرار رئاسي، إلا ان المحكمة أكدت أن صلاحيات الرئيس التي منحت له بموجب النظام الرئاسي تخوله للقيام بذلك.  ويعتقد أن الجدل المتصاعد في تركيا حول انتشار المثلية كان أحد أبرز الأسباب التي دفعت نحو الانسحاب من الاتفاقية، وقبل أيام حظرت الحكومة التركية للعام الثامن على التوالي المسيرة السنوية للمثلين ومنعت مرورها من شارع الاستقلال الرئيسي في إسطنبول وبثت عشرات مقاطع الفيديو لصدامات بين داعمين للمثلية والشرطة التركية التي استخدمت العنف لمنع المسيرة المحظورة. وكانت الرئاسة التركية بررت قرار الانسحاب من اتفاقية إسطنبول بالقول إنه تم تحريف المعاهدة من قبل أشخاص "يحاولون جعل المثلية الجنسية أمراً عادياً”، مشددة على أن المثلية الجنسية "لا تتماشى” مع "القيم الاجتماعية والعائلية” في تركيا، بالمقابل اعتبرت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أغنيس كالامار أن انسحاب تركيا من المعاهدة "يبعث برسالة خطيرة ومتهورة إلى الجناة الذين ينتهكون ويشوهون ويقتلون، بأنه بإمكانهم الاستمرار بذلك دون عقاب”.  واحتجاجاً على تطبيق قرار الانسحاب، نظمت جمعيات حقوقية تظاهرات في أماكن مختلفة من البلاد كان أبرزها مظاهرة كبيرة شاركت بها مئات النساء قرب ميدان تقسيم وسط إسطنبول الذي أغلقته الشرطة بشكل كامل، وأطلقت هتافات من قبيل "لا للانسحاب من اتفاقية إسطنبول”، و”سنواصل نضالنا من أجل اتفاقية إسطنبول”.  وبالتزامن مع دخول قرار الانسحاب من الاتفاقية حيز التنفيذ، ألقى أردوغان كلمة خلال اجتماع تعريفي بما قال إنها "خطة وطنية لمكافحة العنف ضد المرأة”، واعتبر أردوغان في كلمته أن كفاح بلاده لإنهاء العنف ضد المرأة "لم يبدأ مع اتفاقية إسطنبول ولن ينتهي بالخروج منها”، مضيفاً: "مفهوم تصنيف تفوق الناس فقط بسبب جنسهم لا مكان له في حضارتنا وثقافتنا ومنذ اليوم الذي وصلنا فيه إلى سدة الحكم، كانت مكافحة العنف ضد المرأة من بين قضايانا ذات الأولوية”.  وقال أردوغان إن الخطة تشمل "مراجعة التشريعات المتعلقة بمكافحة العنف ضد المرأة وتنفيذها بشكل فعال وتعزز الكفاح لإنهاء العنف ضد المرأة، ومنحها حقوقها كاملة”، مشدداً على أن "العنف ضد المرأة هو انتهاك واضح لحقوق الإنسان ويضر بشكل خطير بكرامة النساء والأطفال وأسرهم ومجتمعاتهم والأجيال القادمة، ويمثل مشكلة ليس لهم فقط، بل لجميع البلدان”. وتبنى مجلس أوروبا، وهو منظمة أوروبية تدافع عن حقوق الإنسان ودولة القانون مقرها ستراسبورغ، "اتفاقية إسطنبول” عام 2011، والأخيرة هي أول آلية فوق وطنية تضع معايير ملزمة قانونياً ترمي لمنع العنف القائم على نوع الجنس، ووقعت عليها تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الذي وقع رئيسه على الانسحاب منها. ومنذ التوقيع عليها عام 2012، يعارض الاتفاقية المحافظون الأتراك باعتبارها تساهم في "تفكيك الأسرة والمجتمع وتشرعن المثلية الجنسية” وأنها "لا تتلاءم مع قيم المجتمع”، وضغطت الكثير من الأحزاب والجماعات والشخصيات المحافظة مراراً طوال السنوات الماضية من أجل الانسحاب منها.  في المقابل تدعم معظم الأحزاب في تركيا وجمعيات حماية المرأة الاتفاقية وتقول إنها السبيل لحماية المرأة في ظل العنف المتصاعد ضدها، وحذرت مراراً من أن الانسحاب منها سيزيد العنف ضد المرأة، واتهمت الحكومة بالانصياع لضغوط الجماعات الدينية التي تعارض الاتفاقية "لأهداف انتخابية”.  ويعتقد أن العدالة والتنمية الذي وقع على الاتفاقية لم يكن مؤمناً بالأساس بها وإنما اضطر للتوقيع عليها ضمن الكثير من التنازلات التي قدمها في إطار مساعيها لدفع ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكن ومع تراجع فرص الانضمام الذي لم يعد على أجندة الحزب، فإنه غلب مصالح أخرى وحسابات داخلية مختلفة هذه المرة. كما تتهم المعارضة أردوغان بأنه اتخذ هذا القرار "لأهداف انتخابية بحتة”، وذلك من خلال إرضاء حليفه زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشيلي الذي يعارض الاتفاقية بقوة، ولإرضاء الكثير من الجماعات الدينية التي تتصدر معارضة الاتفاقية وتعتبر من أبرز الخزانات الانتخابية لحزب العدالة والتنمية وتساعد أصواتها في حسم الكثير من الانتخابات في البلاد. كما تساهم هذه الخطوة في دعم مساعي أردوغان لاجتذاب مزيد من الأحزاب المحافظة الصغيرة إلى تحالفه الانتخابي وعلى رأسها حزب السعادة.  وحذرت أحزاب المعارضة التركية والجمعيات الحقوقية والنسائية على نطاق واسع من مخاطر الانسحاب من الاتفاقية، واعتبرت أن الانسحاب منها يعتبر بمثابة دعم للاعتداءات ضد المرأة في المجتمع، مطالبين الحكومة بسن مزيد من القوانين لحماية المرأة بدلا من الانسحاب من الاتفاقية، ووصف حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، الانسحاب من الاتفاقية "جريمة بحق المرأة في تركيا”.  لكن الحكومة من جهتها، متمثلة في حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، اعتبروا أن الاتفاقية تمثل تهديداً على الأسرة التركية وأنها لا تتوافق مع المجتمع التركي ومنظومته الأخلاقية والدينية، معتبرين أنها تؤذي الأسرة التركية وتفككها، كما لاقت هذه الدعوات دعماً من حزب السعادة الإسلامي المعارض الذي اعتبر زعيمه تمل كرمولو أوغلو أن الاتفاقية تدمر مفهوم الأسرة في تركيا وتحاول دعم وتعزيز المثلية الجنسية في المجتمع، وأعلن دعمه لنية الحكومة الانسحاب منها
القدس العربي