فارس حباشنة يكتب : و الله أني خائف على المنسف !

العراقة و الخبرة ليست بطبخ المنسف و تقديمه ، بل ايضا في تقاليد و اصول تناول المنسف . و ليس كل من وقف على سدر منسف فانه يعرف في اصول و تقاليد أكله . 

طبعا ، لا نزاع على أن المنسف من اشهى و اطيب الاكلات . و لا نزاع على أن المنسف أكلة عريقة و مأصلة ، و اكلة لها طقوسها . و اهم ما يميز المنسف حتى من يترددوا بالاول عن تناوله ، وما ان يتناولوا اول وجبة حتى يتحولوا الى مدمنيين ومنسفجيه . 

و اذكر ايام الدراسة في المغرب ، كنا طلابا من اقطار عربية منوعة ، سورية و لبنان و فلسطين و العراق و ليبيا و مصر ، و السودان . و كل اسبوع يقع الاختيار على احدنا ليقوم بطهي و اعداد طبخة ما . و حرصنا على أختيار وجبات محلية ، كل واحد يقدم الوجبة الشعبية و الاكثر انتشارا في بلده . 

وبعدما جربنا الاكل الليبي و المصري و السوري ، و كل بلد لها سر اجتماعي و شعبي في الاكل والطعام . و لربما هذا السر بابعاد اخرى يخفي ايضا خبايا اقتصادية و ثقافية و سياسية لاي اكلة في العالم . 

وقد تتعرف من بوابة المطبخ على مجتمع و ثقافة ما . طبخت لزملاء الدراسة المنسف مرتين او ثلاثة لا اذكر بالضبط . و في المرة الاولى كانوا مترددين ،وبعضهم رفض فكرة طبخ اللبن " الشراب " مع اللحم ، و استهجنوا فكرة المنسف من اصلها ، و رائحة اللبن و تقديم المنسف على سدر و عرض اللحم والتشريب ، و رمي الشراك فوق الرأس على السدر ، استدرجتهم تدريجيا ، واوقعهم في فخ الاغواء . 

ومن اول " طبخة منسف" وصلنا الى اجماع شبه كلي بين الرفاق والزملاء على أن المنسف اكلة طيبة و شهية . و قاموا على السدر ، و جلدوه ، برزه و خبزه و لحمه و رأسه ، و رجع السدر على المطبخ مغسل و مجلي جاهز دون غسيل .

ومن باب فخامة المنسف ، و انا اعتبر ان ثمة طقوس مقدسة في تقديم و تناول المنسف . و هناك ايضا احتراف في تناوله ، المنسف لا يأكل بملعقة ، و من المعيب و التقليل من هيبة و قيمة المنسف تناوله في ملعقة ، والمنسف لا يأكل في صحون ، و هذه من اكبر الاهانات الى رمزية المنسف ، و لا يوضع على منسف بقدونس و كزبرة ، و مكسرات ، المنسف الاصلي " عذراء " فيرجن " دون اي اضافات تذكر . 

كما ان المنسفجية المحترفين يتفنون في تناول المطعم ، ودحبرة اللقمة ، و الدحبرة فعل لا يقوى على القيام به الا محترفو اكلية المنسف . و تجمع اللقمة في طابة من الرز و اللحم ، و تفنن في تدويرها ، ورميها بطريقة فنية محترفة نحو الفم لابتلاعها . 

الكلام عن المنسف يأخذك الى الشعور بالجوع . و عندما تشتهي المنسف لا تقاوم التهيء لطبخه و تناوله . في عمان هناك مطاعم كثيرة تقدم المنسف ، و وصلنا من عسر و رخاوة و بؤس الحال الى تقديم المنسف في كأسة ، و شوهت صورة المنسف الرمزية الوطنية والاجتماعية ، و كما لو ان المنسف اكلة مستوردة و اجنبية ، ووضعه في كأسة 
في قمة الاهانة و الابتذال ، و تكلمنا كثيرا في رسائل مثقلقة بشعور الغبن و الاهانة الى وزارتي السياحة و الثقافة ، ولكن اذن من طيب و اذن من عجين . 

و في الاونة الاخيرة ، ما يشد قلقي على المنسف ، ولربما ان مخاوفي كبرت مع اقترانه في المجال العام بالحوارات السياسية ، وما نتابع من اخبار للقاءات و اجتماعات فارطة و بلا معنى و قيمة يكون ختامها تناول سدر منسف . 

الجوعى و جوعى و مفوجعين ، وجوعى بdna و مصابون بجوع في الجين ، وجوع مزمن ومتوارث ، يسؤون الى المنسف ، و يسؤون الى هيبة ورمزية المنسف ، و المنسف ليس وجبة لمليء البطن و حشو معدة ، و المنسف وجبة مقدسة . ولو اني احمل قرارا لمنعت شريحة من تناوله ،و حميت المنسف من لبس المحال و المقام .

 
على كل الاحوال ، ما أن فرغت من كتابة هذا المقال ، وحتى توجهت الى مطعم اصول الضيافة لتناول منسف بلدي ، و انا افضل لحم الجدي ، لانه مش مدهن ، و الجميد الكركي من مزارع الحج برهم الذنبيات ، و اهم شي هو الطبخ " العوس " ، و من بين يدي الشيف الفنان" زياد الاردني " .
فارس الحباشنة