تحفيز النمو: داخل الصندوق أم خارجه؟

بعد فترة «معاندة» حول أولوية التوازن المالي والنقدي مقابل النمو الاقتصادي، أصبح هنالك إجماع حاسم في القطاع العام بأولوية النمو في المرحلة الراهنة.
فالقناعة السائدة حالياً تصرّح بأن النمو السريع والعريض هو شرط ضروري لتحسين مستويات المعيشة، وتوسيع القاعدة والايرادات الضريبية والدخل الخاضع للضريبة، ومساهمٌ أساسي في بناء الاحتياطيات الأجنبية الذاتية وتقليل التجنب والتهرب الضريبي والتوجه المتزايد نحو الاقتصاد غير الرسمي.
وبالتالي يُفترض خلال الفترة الراهنة إعطاء اهتمام مُركّز للنمو الاقتصادي المراعي للتحدي المالي في الاردن، ورفع مستوى الطلب والقوة الشرائية وبالتالي مؤشر نصيب الفرد من الناتج الحقيقي، والذي هبط خلال السنوات التسعة الماضية بنسبة 2.9% سنوياً في المتوسط بسبب ثنائي: استثنائية النمو السكاني (5.3 (%وبطء النمو الاقتصادي (2.4%) خلال الفترة 2010-2018. أي تم تسجيل نمو سلبي ممتد في هذا المؤشر.
وكانت الحكمة الرسمية السائدة آنذاك انه يمكن حل معضلة المبادلة Trade-off بين الهدفين أعلاه من خلال التعاقب الزمني، حيث تُركّز السياسة الاقتصادية أولاً على التوازن والاستقرار الاقتصادي الكلي وتوظّف مختلف أدوات التقشف والغاء الدعم ورفع معدل الضريبة وأسعار الفائدة كما تنادي برامج الصندوق، ثم بعد ذلك (يُفترض في عام 2018!) يمكن التفرغ للنمو ومتطلباته.
لكن الآن هنالك رأي أن استعادة زخم النمو القوي والمستهدف في خطة تحفيز النمو الاقتصادي الأردني (2018-2022) يواجه حالياً تشوهات وتحديات هيكلية لابد من التعامل معها أولاً. قد نختلف حول ماهية هذه «التشوهات»، لكنها برأيي: (1) تشوهات تنظيمية وضريبية تعزى الى بيروقراطية عالية ومستويات
ضريبية تفوق الحد الأمثل (حسب منحنى لافر) على مدخلات الطاقة وغيرها و(2) تراخي المؤسسات وتشوش السياسات بخصوص أولوية النمو بمختلف أدوات السياسة المتاحة. فمن المثير للتساؤل فعلاً عدم اتساق التوجه الحكومي الصائب والصريح بدعم ريادة الأعمال في الاقتصاد الرقمي وموقف وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة ذاتها التي دافعت بحرارة عن ضريبة التجارة الالكترونية مهما كانت المسوغات المالية قوية لهكذا اجراء مالي. القضية ليست في منطقية الضريبة بحد ذاتها، بل توقيتها وتناقضها مع «إشارات» التوجه العام للاقتصاد الرقمي.
السؤال الأساسي الآن: كيف يمكننا التعامل مع المعوقات الهيكلية أعلاه للنمو: هل نلجأ الى الحلول القديمة و»العمل كالمعتاد» ونتفق مع صندوق النقد الدولي على برنامج جديد؟ وهو خيار تم تجربته والاحاطة بنتائجه ولا يؤيده الكثيرون بمن فيهم هذا الكاتب. أم نمضي قدماً في برنامج وطني للتنمية المستدامة والنمو الاقتصادي التشاركي، يكون موجّهاً نحو الاقتصاد المعرفيّ والتصدير الخدمي والسلعي عالي التقنية؟ وهو خيار يستحق الالتزام حتى ولو توفرت منح خارجية استثنائية غير متكررة من دولة شقيقة أو من الأسواق الدولية.
المشكلة الجوهرية الاضافية في الخيار الأول (غير إعادة إختراع العجلة) أن صندوق النقد الدولي ليس لديه معرفة فريدة أو مزايا نسبية أو حتى اهتمام مؤسسي مباشر بهدف النمو الاقتصادي. فهو على عكس البنك الدولي ليس مؤسسة تنموية بل مؤسسة مالية تسعى الى تعزيز الاستقرار النقدي والمالي في بلدان العالم، وليس معنياً بشكل مباشر بتحقيق التنمية الشاملة والنمو المستدام.
نعم برامج الصندوق هي معنية بالنمو، لكن كهدف غير مباشر وكنتيجة ومحصلة للاصلاحات المالية والنقدية ولتحرير الاقتصاد والأسعار والتجارة والاستثمار (حسب مذهب الليبرالية الجديدة).
لكن الأردن بالتعاون مع الصندوق نفّذ كل ما سبق وباقتدار على مدى ثلاثة عقود (1989-2018)، ولم يتحقق النمو المستهدف والمستدام (5% كحد أدنى)
خلال السنوات التسعة الماضية. ولم تتحسن الكفاءة الانتاجية والتخصيصية للاقتصاد ولم ترتفع الانتاجية الكلية لعناصر الانتاج كما يفترض النموذج التنموي للصندوق.
نعم كان للصدمات الخارجية دور رئيسي، لكن لتصميم برامج الصندوق التقشفية والهيكلية ولمواقف السياسات الاقتصادية الانكماشية وغير الابداعية دور أساسي أيضاً (مثال: غياب الرؤية والاستراتيجية العابرة للوزارات ومساءلتها، وضعف تخطيط وأمن الطاقة، وغياب سياسة متماسكة لتشجيع الصادرات، وضعف سياسة حوكمة الأسواق الحرة).
وبرأي الكاتب، فإن متطلبات النمو المستدام في ظل ظروف كالأردن هي: (1) اصلاحات مؤسسية أساسية تعطي مسؤوليات وصلاحيات النمو المستدام والتشاركي والمقاد من قبل القطاع الخاص والموجّه للتصدير لوزارة سيادية هي «وزارة الاقتصاد الوطني» التي تعمل وفقاً للموازنة العامة الموجهة نحو النتائج (النمو المستهدف)، (2) انطلاقة ودفعة قوية توحد وتنسق بين مختلف أدوات السياسة الاقتصادية المالية والنقدية والتنافسية والاستثمارية والتصديرية، و(3) مصداقية ثابتة نحو هدف النمو الاقتصادي. وهي متطلبات ثلاثة لا تتحقق بخطوات اصلاحية متدرجة وبطيئة ومشوشة. ويمكن اعطاء البنك الدولي مهمة «مستشار» و»مُراقِب خارجي» لتنفيذ الاصلاحات الوطنية الذاتية.