اللقاء الخطير بين انعدام القيادة وغباء التجاهل المحامي
زكي كمال_تمامًا كمن تجاهل الفارق الواضح بين « السلطة» أي رئاسة الحكومة وبين «القيادة»، التي تستوجب ان يكون صاحبها مصدر إلهام وتعزيز ثقة لأفراد الجماعة ومن يقودهم بمواقف واضحة وشجاعة تستشرف المستقبل، او كمن تخيل بغير حق أن تغيير المواقع يعني بالضرورة وبسرعة البرق تغيير المواقف في احسن الأحوال، او كمن تخيلت أن رئيس الحكومة الجديدة نفتالي بينيت سوف يمنحها ما ارادته منه وانه سيستجيب لكافة أحلامها وتوقعاتها، وجدت وسائل الإعلام الاسرائيلية المختلفة، المسموعة منها والمكتوبة والمرئية، مندهشة امام خطاب نفتالي بينيت امام الجمعية العامة للأُمم المتحدة وهو الذي أغدقوا عليه الأوصاف بدءً من رئيس حكومة التغيير والإشفاء وحتى القائد الشاب الذي أنهى عهد بنيامين نتنياهو وغيرها، ومنحوه كما سابقيه موجات بث مفتوحة لنقل خطابه المذكور رغم تضاؤل أهمية الهيئة العامة خاصة والأمم المتحدة عامة، وبالتالي كان عليها بعد الاستفاقة من دهشتها غير المبررة بل المتوقعة، ان تستل أقلام محلليها ومعلقيها وان يشحذوا ألسنتهم للتعبير عن خيبة أملهم من مضمون الخطاب عامة ، ومن تجاهل القضية الفلسطينية خاصة إضافة الى اختياره لمنصة الجمعية العمومية لتصفية حسابات داخلية ومهاجمة مسؤولي الجهاز الصحي والطبي المعالج لآفة الكورونا في البلاد.
لم أكن من المتفاجئين او المندهشين جراء المضامين التي قرر بينيت أن يشملها خطابه وخاصة تلك التي تعمد بينيت إخفاءها او تجاهلها او تناسيها او وضعها تحت السجادةوفي صلبها الشأن الفلسطيني، خاصة وأنني لم أتوقع منه غير ذلك بحكم معرفتي بمواقفه، ورغم ذلك ما تبادر الى ذهني عند انتهاء كلمته تلك كان ما قاله الصحفي الأميركي الشهير بوب وودورد ، الذي اشتهر بلقب مفَجِر فضيحة ووترغيت، في كتابه» حالة إنكار-أسرار حرب العراق» حيث قال ان حالة الانكار تصل ببعض الناس الى درجة انهم على استعداد لتجاهل وجود فيل معهم في نفس الغرفة،أو قول جواهر لال نهرو المشهور:» عندما تفكر بالغايات يجب ان لا تتجاهل الوسائل»، واقصد غاية بينيت وهي إرضاء اليمين وبضمنهم زميليه في الحزب اييلت شكيد ومتان كهانا والنواب من حزب أمل جديد برئاسة جدعون ساعر، والتخلص من ظل بنيامين نتنياهو الذي يلاحقه وإثبات عدم صحة اتهامات اليمين له بانه خطر على أمن إسرائيل وانه يتنازل عن كل شيء ارضاءً للدكتور منصور عباس رئيس القائمة العربية المتحدة، لا تبرر الوسائل كافة ولا تبرر تجاهل القضية الاولى والأساسية التي تقض مضجع اسرائيل منذ اقامتها وحتى اليوم وهي النزاع مع الفلسطينيين واحتلال الضفة الغربية او تناسي هذه القضية ودفن الرأس في الرمال معتقدًا انه اذا ما تناساها او تجاهلها فإنها بذلك انما ستختفي وتزول وكفى الله المؤمنين القتال، ناهيك عن ان بينيت إنما تجاهل بخطابه المذكور او نسي غايته الحقيقية ودوره الحقيقي وهو قيادة إسرائيل نحو عهد من التغيير والتجديد والامل، وربما حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني او على الأقل استئناف المفاوضات بين الطرفين، وليس تكرار ما كان خلال عهد سابقه بنيامين نتنياهو، ناسيًا قول الفيلسوف فريدريك نيتشةأن نسيان غاية المرء هو أكثر أشكال الغباء انتشارا .
كثيرة هي الأسباب التي تجعل اختيار بينيت تجاهل الشأن الفلسطيني غريبًا ومستغربًا بل مستهجنًا ، خاصة وان معظم الأزمات والأحداث السياسية والأمنية التي تعاملت معها الحكومة الإسرائيلية منذ أن توليه منصبه قبل نحو أربعة أشهر، تتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، من مسيرة الأعلام في القدس، وقضية العائلات الفلسطينية في الشيخ جراح بالقدس، وافتتاح القنصلية الأمريكية بالقدس، وهروب الأسرىمن سجن جلبواع، والتصعيد في غزة أيار الماضي، وحتى التصويت في الكونجرس على تمويل المنظومة المضادة للصواريخ، القبة الحديدية، وقضية نقل الأموال الى قطاع غزة، ومن هنا فإن حقيقة أن بينيت لم يذكرها ولو مرة واحدة، كانت بمثابة هروب وانفصال عن الواقع لا اقل ولا اكثر، وكثيرة هي التفسيرات حول الأسباب التي دعته لذلك، حيث ذهب بعضها الى القول ان بينيت اعتبر الجمعية العامة للأُمم المتحدة منصة مناسبة للإثبات قدرته القيادية وكونه صاحب القول الفصل في حكومته ذات الرؤوس الثمانية وانه يستطيع إدارة ازمة الكورونا بشكل افضل من سابقه الذي تعمد عدم ذكره بالاسم، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للشأن الإيراني وتلويحه بالخيار العسكري ما لم يفعله نتنياهو، لكن الحقيقة الواضحة هي ان بينيت أكد لمن ساورته الشكوك انه ليس قائدًا وانه ليس اهلًا للقيادة حتى لو كان اهلًا للسلطة بفعل تفاعلات ائتلافية داخلية تظافرت فيها جهود جميع أولئك الذين أرادوا لعهد نتنياهو ان ينتهي عبر حكومة تمتد من اقص اليسار حتى اقصى اليمين ، كما اثبت انه وهو الذي كان حليفًا لبتسلئيل سموتريتش ما زال شريكًا محتملًا له ولليمين المتدين الذي يقدِّس الاستيطان ويكرِّس سيطرة اسرائيل على الضفة الغربية، كما ان خطابه يؤكد ربما صدق ما قاله نتنياهو من ان هذه الحكومة ستكون قصيرة العمر وانها لن تعمر طويلًا.
الخلط بين القيادة والسلطة ليس جديدًا في اسرائيل فالفارق بينهما واضح، رغم انهما قد يجتمعان في بعض الحالات وعند بعض الأشخاص، إلا أن ذلك لا يعني أنهما مترادفان تمامًا؛ فالعلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص، أي قد يلتقيان في بعض النقاط، ويختلفان في نقاط أخرى كثيرة، لكنه أوضح هذه المرة من سابقاته حتى مقارنة مع بنيامين نتنياهو الذي أصر خلال سنوات حكمه منذ العام 1996 على إدارة الصراع بدلًا من حله وتميز بخطابات نارية لم يكن لديها أي رصيد فعلي، وربما هناك من يمني النفس بان يكون خطاب بينيت كذلك، فاريئيل شارون كان قائدًا وليس سلطة فقط وبالتالي اعلن امام الهيئة العامة للأمم المتحدة عام 2005» ان الحفاظ على حق اليهود في ارض اسرائيل لا يعني باي شكل من الأشكال تجاهل او تناسي حقوق الباقين، فالفلسطينيون سيبقون جيراننا الى الأبد ولا رغبة لنا ان نتحكم بمصائرهم فلهم الحق في الحرية والعيش في كيان وطني لهم» وكذلك نتنياهو الذي تحدث عن حق اليهود في وطن قومي الى جانب الفلسطينيين وفق حل الدولتين كما قال عام 2009 في خطاب بار ايلان، وكما كرر ذلك امام الجمعية العامة للأُمم المتحدة عام 2016 حين قال انه ما زال يؤمن بحل الدولتين، ، اما بينيت فهو ليس قائدًا ولا سياسي ، لا يدرك ان العالم رغم تعاطفه الكبير مع إسرائيل لا يقبل باستمرار الاحتلال، ناهيك عن ان خطاب بينيت يثبت لمن أراد ان الائتلاف الحالي وخاصة د. منصور عباس قد، تمت اقامته دون الخوض والتعمق في قضايا هامة للمواطنين في البلاد، وان عباس لم ينجح حتى ألأن في استغلال قدراته السياسية التي يوفرها له كونه جزءً من الائتلاف ، لأول مرة منذ بداية الصراع بين اسرائيل والدول العربية والفلسطينيين قبل نحو 100عام ، ولم يحيط نفسه بأصحاب الخبرات والامكانيات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وانه يعتبر مجرد الانضمام إلى الائتلاف انجازًا بحق ذاته انطلاقًا من عقدة الأجنبي التي يعانيها العرب في البلاد والمنطقة والعالم، وان الائتلاف مع رئيس الوزراء هذا لا يستجيب للتوقعات منه بقيادة البلاد الى عهد جديد .
اختيار بينيت التركيز على امرين في خطابه هما إيران والكورونا هو الدليل على انه ما زال لا يدرك صفات وميزات المنصات الدولية، كالهيئة العامة للأمم المتحدة، التي عادة ما يتوقع منظموها ان تحمل الكلمات التي يتم القاءها خلالها رسائل عامة يفضل ان تكون إيجابية كما ان قراره الاشتباك علنًا مع المسؤولين عن الصحة في البلاد لا يعدو كونه الإثبات على سوء نوعية وقدرات مستشاريه المقربين الذين كان عليهم منعه من مهاجمة المسؤولين الصحيين وإفهامه انعند وقوع المشكلات فإن القائد يبحث عن الحلول، أي ان يتساءل «ماذا» «ولماذا بينما يبدأ الرئيس(السلطة) بإلقاء اللوم على من يعتقد انه المخطئ ويبحث عن وسائل لمعاقبتهم وتوبيخهم، كما ان رئيس الوزراء نسي انه بقراره تجاهل الشأن الفلسطيني انما يتجاهل شركاء في الائتلاف أصبح بفضلهم فقط رئيسًا للحكومة، كما تناسي او نَسِيَ العالم بمعظمه قد قال كلمته وهي تؤيد الاتفاق النووي مع إيران كما نسي ان امتلاك سلاح نووي لا يعني الردع لكافة الاعداء، وهذا ما اثبتته حرب السادس من أكتوبر عام 1973 والتي شنتها مصر وسوريا على إسرائيل رغم امتلاكها أسلحة ذرية حينها ونووية وفقًا لمصادر أجنبية، رغم انها حرب جاءت لتحقيق أهداف معينة منها استعادة الأراضي التي احتلتها اسرائيل عام 1967 وليس إبادة اسرائيل أي انها شكلت خطرًا وتهديدًا لمصالح استراتيجية اسرائيلية ولم تكن تهديدًا لوجود إسرائيل.
كان بالأحرى ببينيت ان يتطرق الى ثلاث قضايا تقلق المواطنين في البلاد عامة وهما ألشأن الفلسطيني أي ألأحتلاال والكورونا والعنف داخل المجتمع العربي وأعتبارها كمشكلة قومية ووطنية، تستوجب أحيانًا لمواجهتها وتحقيق المصلحة العامة التنازل عن بعض المصالح الشخصية والخاصة.
ولكن بينيت لم يخترع العجلة رغم انه كان الأكثر فضاضة ووضوحًا في تناسيه وتجاهله للقضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين، فالتجاهل، تجاهل الخصوم ليس جديداً في الحياة السياسية في إسرائيل، فقد بنت إسرائيل نفسها على فكرة تجاهل الفلسطينيين، «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» كما قال الكاتب يهودا زنغفيل ، بل أن التجاهل أصبح تقليداً في السياسة الإسرائيلية الداخلية، اتّبعه ديفيد بن غوريون في صراعه مع مناحيم بيغن خصمه اليميني العنيد، إذ كان يتعمد عدم ذكر اسم بيغن في جلسات الكنيست، والتحايل على لفظه بطرق مختلفة مثل الإشارة اليه على نحو «النائب الذي يجلس بين فلان وفلان»، خاصة وان بن غوريون كان يحاول التقليل من شأن بيغن، وصولاً الى السخرية منه وإخفائه حتى انتهى الأمر الى هزيمة حزب العمل في انتخابات عام 1977 وتلاشيه عن الحلبة السياسية بشكل كبير وخسارته مركز القيادة في الحياة السياسية الإسرائيلية منذ ذلك الحين ، وصولًا الى غولدا مئير التي قالت انه ليس هناك شيء اسمه الشعب الفلسطيني وقولها ردًا على سؤال حول إمكانية إعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة :» كيف يمكن إعادة الأراضي التي نسيطر عليها؟ ليس هناك ما يجب اعادته» لتفاجئها حرب أكتوبر 1973 وتطيح بها من الحياة السياسية بقرار من لجنة اغرانات التي حققت في ملابسات تلك الحرب، ليصل الامر الى مناحيم بيغن الذي تجاهل وجود الشعب الفلسطيني وامتنع عن ذكر اسم ياسر عرفات بل وصفه بانه «الرجل الذي له شعر على وجهه»، بينما ينشأ تجاهل بينيت لنتنياهو من الخوف، ومن خسارته المحسومة في أي مقارنة تجمع الاسمين معا، ويأتي تجاهله للقضية الفلسطينية دليلًا على خوفه من اتباع اليمين والليكود وخوفه من زملائه وتيقنه ان وصوله الى سدة الحكم كان «حادثًا عابرا»، وبالتالي وبدلا من أن يستغل بينيت منصة الامم المتحدة كي يرسم رؤيا، فانه في خطابه هناك تحدث وكأنه ما زال في خضم الحملة الانتخابية او ربما هو على ثقةبأنالحكومة التي قام بتشكيلها لن تصمد امام الهجمات التي تتعرض لها والانتقادات الموجهة اليها، كما ان خطابه يؤكد الفارق بين النسيان والتناسي السياسي ، ويؤكد ان النسيان صفة مولودة ترافق الإنسان منذ ولادته ، فالإنسان رفيق النسيان الذي قد يكون مصدرًا للراحة وترتيب الأولويات والتغاضي عن أمور قد تثقل كاهل الكثيرين وانه قرار شخصي فردي، لكن التناسي مُكتسب، وانه انعكاس للصراع بين الذاكرة والنسيان، وهذا الصراع يحدث لأن العقل والقلب تواجدا بعين المكان وكل منهما يحاول فرض شروطه فيضيع الكيان كله ويختل ميزان حياة هذا الشخص؛ فبدلاً من وقف الحرب بينهما بكل عقلانية وحب، يفضل العقل الجلوس على المدرج والتفرج على أجزائه تقطع بعضه، وذلك يعني ان تجاهل بينيت للفلسطينيين هو تجاهل تكتيكيوهو أحد أنواع التجاهل، التي يتم التخطيط لها بشكل مسبق، من قبل شخص ما كأسلوب تحدي للطرف الأخر، ويُلجأ لهذا النوع من التجاهل كنوع من الرد على أسلوب الطرف الأخر الفلسطيني في هذه الحالة، أو الرد على عناده وتمسكه بالرأي الذي قد يفقده صوابه في نهاية المطاف وهنا السياسي .
عادةً ما يُسَبِب التجاهل والإهمال أذىً أكثر من الكراهيةَ المُطلقة، كما قالت جي.كي رولينغ، ومن هنا فإن خطاب بينيت قد يكون بداية لمرحلة حرجة ومتوترة بعد ان قالها بملء فمه انه لن يقبل باي عملية سلمية ولا تفاوضية مع الفلسطينيين وبعد ان قالت حليفته ورفيقة دربه السياسي اييلت شكيد انها ترفض لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وبعد ان اعتبر بينيت ومؤيديه في الائتلاف ومنهم جدعون ساعر ان لقاء أعضاء الكنيست من حزب «ميرتس « اليساري هو خطوة غير ذات أهمية بل انها « إعلانية وإعلامية فقط»، وهنا على بينيت وائتلافه الاختيار فإما حكومة تغيير او سياسة تجاهل نتيجتها تدمير ما تبقى من احتمالات حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ما يضمن للشعبين الإسرائيلي اولًا والفلسطيني ثانيًا العيش الرغيد والامن والاستقرار فخطابات الزعماء على منصة الجمعية العامة لا تغني ولا تسمن من جوع اذا ما جاءت لخدمة اهداف ضيقة وبديلًا لعمل على ارض الواقع لمصلحة الشعب عامة عبر اتخاذ قرارات تؤكد وجود رؤية مستقبلية واعية ومدروسة مردها القيادة الحقيقية الشجاعة وفق القاعدة القادة هم من يحددون أهمية ونوعية المنصب وليس العكس!!!.