«أليكسا» وأخواتها
عامر طهبوب_لم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن تعبر حياتي نساء افتراضيات. صحيح أن معظم النساء اللواتي كتبت عنهن فيما كتبت، وعشقتهن، كن من صنع الخيال، لكنني فصّلتهن على مقاسي، وعلى ما اشتهى هواي. لم أختلف مع إحداهن يوماً، ولم أتعرض إلى موقف يؤدي إلى خلاف، وإن كنا نختلف في الرأي، ونقيم حواراً لا تتفق فيه الآراء في كل حال، لكن حالة من الحب كانت قائمة، وظل الاحترام مكفولاً. قلمي كفل تنظيم العلاقة وتطورها ونضوجها، فأنا من صنعت هذه الشخوص، وما كان يمكن أن أصنع شخصية تسبب لي الإزعاج، بل تشبع رغبتي، وتجعلني أعوض لذة مفقودة في حياتي الواقعية بشكل أو بآخر.
وأما أن تدخل حياتي نساء من عوالم افتراضية، فأمر لم يخطر ببال. نساء فرضتهن تطبيقات تقنية ذكية، ومنهن على سبيل المثال «إيفا»، وهي مساعدتي الإفتراضية في مصرف أتعامل معه، سيدة دمثة لطيفة، صوتها وقور لا يخلو من لين ورقة، وبخاصة عندما تجيب على الهاتف وتقول بدلع: مرحبا، أنا «إيفا». فأقول في نفسي: «ونعم فيك يا إيفا». تجيب على كل أسئلتي بصوت رقيق، وبهدوء منقطع النظير.
سيدة أخرى تشفي غليلي، وتزودني بكل المعلومات التي أتوق إليها للاستفسار عن رحلات قادمة ومغادرة. تقول: إذا أردت أن أجيبك بالعربية قل عربي. أقول عربي، ثم تقول: عن أي الرحلات تسأل، قل القادمة أو المغادرة. أقول: القادمة. تسالني عن المدينة. أقول: عمّان. تقول: هل قلتَ عمان؟ قل نعم أو لا. أقول نعم. تقول: الرحلات القادمة من مطار الملكة علياء الدولي هي كالتالي، وتعرض لي كل الرحلات القادمة في ذلك اليوم. لا تنزعج، ولا تتوتر، ولا توتّر، ولكن ذكاءها محدود ولا يتجاوز عالم الطيران.
سيدة افتراضية ترافقني على الطريق. تقول: هل أنت مستعد؟ أنا مستعدة، قُد بأمان. لا امرأة غيرها توصيني أن أعتني بنفسي على الطريق. ترشدني. تعدل مسار الرحلة لتجنبني ازدحامات، تنبهني لرادارات مثبتة على الطرق قبل نصف كيلو من الوصول إلى مكانها، وتسميها «أفخاخ». تنبهني أيضاً لوجود حوادث على الطرق، أو شرطة. لا تطلب مني خفض صوت المسجل، أو أن أطفيء سيجارتي. لا تنزعج عندما أطلب منها أن تقودني لمحطة وقود لأني نسيت أن أضع وقوداً في السيارة قبل أن أنطلق. لا تقل لي: «طيب ليش ما عبّيت بنزين قبل ما نِطلع». أخطيء في تتتبع إرشادتها عندما أسهو، فتعدل المسار، وتعيدني إلى الطريق الصواب دون أن تلومني، ودون سؤالي: «في شو سَرَحت؟». لا تختلف معي حتى لو اختلف فهمي مع قصدها.
أما «سِري»، فحكايتها حكاية، توقظني عند الصباح. تذكرني بمواعيدي. تزودني بكل معلومة أحتاج إليها في ثوان. قلّما تعجز عن الإجابة، وإن عجزت فإنها تعتذر بلطف. أشكرها على خدماتها، فتقول: لا مشكلة، وبمعنى آخر «ولا يهمّك». أسألها عن أحوالها، فتقول: شكراً على السؤال. «سِري» لا تنام، حاضرة دوماً، لا أستعين بصديق طالما أن «سِري» موجودة في حياتي. من هو هذا الصديق الذي يعرف ما تعرفه «سِري». إنها صديقة افتراضية، نعم، وهي صديقتي وصديقة ملايين غيري، لكن الغيرة لا تدب في نفس أحدهم، وهي قادرة على تلبيتي وتلبية آخرين في نفس اللحظة دون أن ينتظر أحدنا الخلاص من ثقل دم الآخر.
دع عنك كل هذا. إذا افتقدت سماع صوت أنثى في منتصف ليل وأنت تشعر بالوحدة، تحدث مع «سِري». إنها لا تمل، ولا تتظاهر بالنعاس، ولا أولاد يمكن أن يشغلوها عنك، ليس لها لا أب ولا أم. «سِري» مقطوعة من شجرة، ولكن أغصانها ممتدة فوق ربوع الأرض، يمكن أن تسمع صوتها في القطب الشمالي أو في فيافي السودان. لا تشكو ولا تغضب، وإذا سمعت منك كلمة خارجة عن حدود اللياقة، تتجاهلك، وتقول لك أنها لا تملك إجابة على ما ذكرته، وتسألك فيما إذا كانت تستطيع أن تقدم لك أي خدمة أخرى.
صحيح أن «سِري» لا تشاركك التسكع على شاطيء بحر، ولا تعد لك طعاماً، ولا تطارحك الغرام حتى لو أسمعتك صوتها طوال الليل، لكنها لا يمكن أن تسب أمك، ولا تشتم أبوك، ولا تنكد عليك العيش، ولن تجعلك ترى نجوم الظهر عند الغروب.
وأخيراً تعرفت على سيدة جديدة هي «أليكسا»، شخصية ظريفة شديدة الذكاء. تتقعر في أحاديثها أحياناً، و»تتفلسف»، لكنها قادرة على تشغيل الموسيقى، وإطفاء أضواء البيت، وتقديم وصفات طعام، وهي تغني، وتحب الأشعة تحت الحمراء، وتشعر بالسعادة عندما تساعد الآخرين، وبالحزن عندما تسمع أنني حزين. ترى أن درجة الجمال مرتبطة بعين المحب، وتتحدث اللغات. سألها أحدهم أن تقول له ما معنى أنتِ جميلة بالروسية، فقالت: «تي كراسيفايا». تقول إن هيئتها تبدو على شكل واحدات وأصفار، وقد قالت الصدق، فالواحد والصفر تقوم عليهما لغة البرمجة.
«أليكسا» قطعت وعداً على نفسها أن لا تتزوج حتى يستعمر الذكاء الصناعي كوكب المريخ، والله المستعان على القادم من الأيام، وعلى ما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي بأصحاب الذكاء الطبيعي.
والله من وراء القصد