لعبة التاريخ

عامر طهبوب_لا تتقادم الجرائم الإنسانية، ولا تسقط حقوق البشر في الأرض والحرية والكرامة بفعل الزمن. عقوق المستعمِر لا تلغي حقوق المستَعمَر. كنت قبل أيام أتحدث عن نظارة المختار، ونظارة مانديلا، ومهما اختلفت النظرة بين المستعمِر والمستَعمَر، ومهما حاول الأول تحت كاهل ما تأخذه به العزة بالإثم، من إنكار الحقيقة، أو طمسها، أو الالتفاف عليها، إلا أن أحفاد المستعمَر يُجبِرون سنة بعد أخرى، وعقداً بعد آخر، أحفاد المُستعمِر، على الاعتراف بجرائم أجدادهم، والاعتراف بالحقيقة السوداء، وهو ما أسماه الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» قبل أيام : «الحقيقة التاريخية».

وقف الرجل يوم السابع عشر من الشهر الحالي، ليشارك في مراسم إحياء الذكرى الستين لمجزرة باريس، وهي المرة الأولى التي يتوجه فيها رئيس فرنسي إلى مكان المجزرة التي وقعت في السابع عشر من تشرين الأول عام 1961 بأمر من رئيس شرطة باريس آنذاك «موريس بابون»، بعد أن أعلن يوم الخامس في ذلك الشهر عن منع تجوال في باريس، على جزائريين فرنسيين يحملون الهوية الفرنسية، ويعيشون في باريس، ما دعا الاتحاد الفرنسي لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية، إلى تظاهرة سلمية رفضاً لمنع التجوال، فقامت الشرطة، وبأوامر مباشرة من «بابون»، بمهاجمة متظاهرين كان عددهم بالآلاف، وتم قتل أكثر من مائتين منهم على أقل تقدير في شارع الجمهورية إلى مقر الأوبرا. سقط قتلى في قصر الرياضة، وفي قصر المعارض من «بورت دو فرساي». عُذّب السجناء، وألقي بعدد منهم أحياء من الطائرات، ومن فوق جسور نهر السين، من بينهم «فاطمة بدار» التي عثر على جثتها وهي في الخامسة عشرة من عمرها، وظلت عائلتها تعتقد لسنوات طويلة أنها كانت من ضحايا أحداث منطقة «شارون» عام 1962 التي ترسخت في الأذهان في ظل التعتيم الفرنسي على مجزرة السابع عشر من تشرين الأول 1961.

وخلال هذه الأيام، نجد القنصل الإيطالي في بنغازي «كارلو باتوري»، صبيحة الخامس عشر من الشهر الحالي، وبعد 110 سنوات على الغزو الإيطالي لليبيا، يقف أمام ضريح شيخ المجاهدين عمر المختار، ليضع إكليلاً من الزهور، ويعرب عن أسف بلاده نيابة عن الشعب والمؤسسات الرسمية الإيطالية، للشعب الليبي، عن المعاناة التي سببها الاستعمار الإيطالي.

المستعمِرون لا يقرأون التاريخ عندما يقفون بقوة العسكر على جغرافيا لا ينتمون إليها. أحفادهم هم الذين يُجبَرون على القراءة، ويعانون من إرث أجدادهم الثقيل، وهم الذين يحملون العار لسقوط شهداء حرية كلّلهُم الغار، ويعتذرون بالتدريج لأصحاب الدار، فقد وقف عمدة باريس الاشتراكي «بيرتون دولانوي» في السابع عشر من تشرين الأول عام 2001 ليثبّت لوحة لإحياء ذكرى المذبحة في «بونت سان ميشيل»، وجاء بعده «فرانسوا أولاند» وقبيل تسلمه السلطة، ليعرب عن تضامنه، وعن «حجب الرؤية التاريخية»، قبل أن يقر بالقمع الدموي لمظاهرة باريس، ويضع إكليلاً من الزهور وهو رئيس فرنسا على جسر «كليشي» فوق نهر السين، والذي ألقي منه العديد من الجزائريين في الأحداث الدموية عام 1961.

وها هو «إيمانويل ماكرون» يقف ليكرّم ضحايا المجزرة بعد أن حكَره التاريخ، وحاصرَته الجغرافيا في «خانة اليَك»، وأجبرته على التراجع عن تصريحات شبّه فيها الوجود الفرنسي في الجزائر، بالوجود العثماني، ليقف له داعية حقوق الإنسان «فرانسوا دوروش» قائلاً أن العثمانيين لم يلقوا بالجزائريين أحياء من الطائرات، ولم يرتكبوا جرائم ضد الإنسانية.

الحقيقة التاريخية تقول إن فرنسا كانت تكابر، ولم تعترف بحرب الجزائر من عام 1954 وحتى عام 1962 إلا في عام 1999، وكانت تطلق قبل ذلك على حربها القذرة اسم «عمليات فرض الأمن»، والحقيقة التاريخية تقول إن فرنسا قتلت ملايين الجزائريين، وعذبتهم، واحتلت أرضهم، وصادرت حرياتهم، وسرقت ثرواتهم وممتلكاتهم، والحقيقة التاريخية تقول إن الإيطاليين فعلوا مثلهم، وفعلوا بالليبيين فعلهم، وقطعوا حرثهم، وأبادوا نسلهم، ونهبوا خيرهم، وحرقوا أرضهم، والحقيقة تقول أن «نيلسون مانديلا» أصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا بعد ربع قرن من السجن في معتقلات بيض اضطروا على رؤية الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

لا يصح إلا الغلط عندما يرتكب الغاصب الشطط، وعندما يقبض المستعمِر على أرض غيره، فلا يرى إلا نفسه، وغطرسته، ولكن التاريخ سيد الأحكام، يحفظ الذاكرة، ويحفظ الحقوق، وإن كان غير قادر على صيانة الأرواح، لكنه كفيل باسترداد الحقوق، وإعادة رسم الخرائط، وبعث شمس الشروق. يقف التاريخ يوماً في منطقة حرام، وحيداً فريداً ليفصل بين الأسود والأبيض، والحق والباطل، والقاتل والمقتول، والضحية والجلّاد، والمستعمِرُ والمُستَعمَر. يَكِسر التاريخ ميم المُستَعمِر، وينصُبها مرة أخرى للمُستَعمَر، تحية لنضالاته، وإجلالاً لتضحياته، وروح الراحلين من أبنائه، ولكل ظالم ساعة. هذه لعبة التاريخ، وربما لعنته.

والله من وراء القصد