«الجزيرة»: قنبلة قطر النووية!
وكما قال حكيم اسبرطة "تبات نار تصبح رماد”، ولأنه يوناني فلم يلتزم بقواعد النحو وهو يطلق حكمته هذه، لتكون "ناراً” و”رماداً”، لكن وكما قالت الست بلسان عربي فصيح "كل نار تصبح رماد مهما تقيد.. إلا نار الشوق”. ومع ذلك لم تقل "رماداً”!
ما علينا، فلم نكن كما غيرنا في حاجة، إلى ضبط وتحرير إعلان «الجزيرة»، أسفل كوبري السادس من أكتوبر وسط العاصمة المصرية، للوقوف على حال الدنيا، فحالها واضح؛ ففي اللحظة التي كانت فيها "«الجزيرة»” تحتفل بعيدها الفضي، ومرور ربع قرن على انطلاق بثها، كان الجنرال عبد الفتاح السيسي يقبل غير مدبر، متهلل الأسارير، في اتجاه أمير دولة قطر؛ فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم!
وقد جرى هذا كله، مع أن قطر لم تخضع بالقول، ولم ترضخ للمطالب التي أجمعت عليها دول الحصار ومعها عبد الفتاح السيسي، وكان على رأسها اغلاق قناة «الجزيرة»، فقد بلغ إحساس القوم بالقوة أنهم لم يطلبوا ترشيد خطابها، فالطلب كان هو الإغلاق بالضبة والمفتاح!
ولم يعد أحد الآن يساوره القلق خوفاً على «الجزيرة»، وهو الأمر الذي تسرب للنفوس قبل الحصار الجائر، وإن كان بصيص الأمل يأتي من هناك، ليذيب الهموم وتحل السكينة، فالمشروع في كنف الأب الروحي للقناة الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وبالتالي لن يسمح بإبادته. وفي خطابه في الاحتفال بالعيد الفضي، قال إن «الجزيرة» هدية قطر للعالم.
والتطور الذي حدث في الحصار، أن «الجزيرة» أثبتت أنها قنبلة قطر النووية، وليست عبئاً على الدولة، ففي ليل المؤامرة، كانت في الصفوف الأمامية، أقوى من أي سلاح في المواجهة، وأي قوة ردع، وليست كل القنابل النووية مما تؤدي الغرض منها، فعندما رضخت باكستان أمام الغزو الأمريكي الزاحف في اتجاه أفغانستان، كان المعلن أن الرضوخ خوفاً على القنبلة النووية، وفي برنامج "رئيس التحرير” في التلفزيون المصري، أوشك الراحل حمدي قنديل أن يشد شعر رأسه، وهو يسأل في دهشة: هل القنبلة يُخاف منها أم يخُاف عليها!
بيد أن الأمر مختلف مع قنبلة قطر، التي لا تبق ولا تذر، مع أنها لم تتخل عن المهنية، بل كان مصدر القوة هو التمسك بها، فتذيع ما تردده رباعية الحصار، ولا تتجاهله، والذي كان وحده كفيلاً بتحويل القوم إلى مادة للفكاهة والتندر، ثم انطلقت إلى آفاق أخرى في فتح الملفات وتغطية المسكوت عنه، فلم يسقط الحصار إلا وعلم البشر والحجر قيمة "«الجزيرة»”، التي قامت بدور ثبت باليقين إن غيرها لا يمكن أن يقوم به، أو يسد فراغاً تتركه طوعاً أو كرهاً، في حضورها أو إذا تم تغييبها.
وانطلقت ترسانة القوم الإعلامية، والتي لا ينقصها الإبهار أو التمويل، لتجابه هذا السلاح الفتاك، ولأنها تدرك أنها فقيرة مهنياً، فكان البديل هو ردح الحواري و”فرش الملاية”، ونشر الأكاذيب، ومن بينها أن قطر تحمي الإرهاب وتمول سد النهضة بغرض جفاف مصر، لكن لغة المشاجرات لا تصلح في زمن الحروب، فجعلت "«الجزيرة»” من هذا الإعلام ومن وقاحته كأنه هشيم تذروه الرياح، أو رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، اتبع السيئة الحسنة تمحوها!
الدلالة الرمزية للإعلان
إن من روجوا، عبر منصات التواصل الاجتماعي، للإعلان سالف الذكر، انصب اهتمامهم على الدلالة الرمزية له، ودلالته واضحة للعيان، به أو بدونه، وهم لذلك لم ينتبهوا لصياغته، التي جادت به قريحة مستشرق والمكتوب بالبنط العريض وصفا للجديد في «الجزيرة»، لا يستخدم مصرياً في هذا السياق حيث "القالب الإخباري الجديد”، وفضلاً عن ثقل المفردة "قالب”، فإنها تذكر باستخدامات مصرية ليست جيدة!
يقيناً أن العين ستهتم بالدلالة السياسية للأمر، فهذه «الجزيرة» التي أغلق مكتبها، وتمت مطاردة العاملين فيها "بيت بيت.. زنقة زنقة”، والتهديد بوضعها على قوائم الإرهاب، يتم الإعلان عنها في شوارع القاهرة!
وقد نقل لي صديق، أن ضياء رشوان، رئيس هيئة الاستعلامات، قال في مقابلة مع خيري رمضان، إنه لا مشكلة بين مصر وقناة «الجزيرة»، أما الصحافيون المعتقلون، فهم مصريون وبالتالي هم شأن مصري. وأدهشني أن خيري رمضان عاد للشاشة، ولا يزال مستمراً، وبحثت عن المقابلة، فلم أعثر عليها، وإن عثرت على ما يفيد أن رمضان يقدم برنامج "القاهرة والناس”، وآخر المنشور هو عن حلقة وجه فيها عتاباً لرجل الأعمال نجيب ساويرس، لأنه أعاد نشر مقال فيه هجوم عليه، فتذكرت يوم أن كتبت هنا في هذه الزاوية، عن الدعاية التي نصبها الإعلام المصري قبل الانقلاب العسكري، لهروب ساويرس، صاحب قناة "أون تي في”، إلى فرنسا، فاتصل بي خيري رمضان هاتفياً، ليؤكد لي صحة وجود قرار من الحكم الإخواني باعتقال نجيب ساويرس، ولهذا هرب!
وكانت المأساة في الجانب الذي في الحكم، أنه لم يهتم بنشر الحقيقة للناس، وعندما علم الرأي العام بها، كان هذا بينما وفد رئاسي ينتظر ساويرس في مطار القاهرة، في صالة كبار الزوار، بحضور وزير الاستثمار الإخواني يحيى حامد، وكانت الحقيقة أن الأزمة مع صاحب أون تي في، ليست سياسية، ولكن لتهربه من ضرائب مستحقة عليه لصالح الدولة، فلما تمت التسوية، عاد، وقال الوزير المذكور إنهم يعقدون أمالا عريضة على آل ساويرس، وكانت أماله في محلها، فقد عاد ساويرس ليشارك في الانقلاب، ويكون أحد أدواته التنفيذية، الأمر الذي أدرك السيسي خطورته، فجرده من قوته، بوضع يده على قناة "أون تي في”!
نجاح «الجزيرة»
الرمزية هي الموضوع في إعلان «الجزيرة» في شوارع مصر، فـ”«الجزيرة»” ليست في حاجة إلى دعاية وقد وصلت إلى كل بيت، وهي دعاية لم تفعلها في بداية انطلاقها من باب التبشير، فقد كانت سبباً في اقدام القادرين على شراء أجهزة استقبال الإرسال التلفزيوني الفضائي، وأدرك صفوت الشريف وزير الإعلام هذه الحقيقة، فعندما أطلق القمر الصناعي المصري "نايل سات”، قرر أن يحمل «الجزيرة»، رغم الهجوم عليها، لكنه تصرف كتاجر، وليس كواحد من أهل الحكم، وفي الحقيقة إنه لم يدخل طرفاً في الهجوم على «الجزيرة»، إلا بعد تبكيت مبارك له، بعد أن رأى «الجزيرة» رأي العين في سنة 1999، وبما يشير إلى فشله، وكانت له بعض الاجتهادات في المنافسة، كان منها اطلاق قناة "النيل للأخبار”، والتي كانت واعدة في البداية، لكنها كانت كالنعجة دوللي إذ أصابتها الشيخوخة المبكرة.
فمنذ البداية لم تكن «الجزيرة» بحاجة إلى دعاية، أو إلى الإبهار، كما لم تكن بحاجة إلى استوديوهات عملاقة مترامية الأطراف، وشاشة مزدحمة، وتباسط المذيع مع الجار بالجنب وابن السبيل، فنجاحها في الرسالة الإعلامية، وفي شعارها "الرأي والرأي الآخر”، والتنوع، والمذيع الكاريزما وليس "فاترينة” عرض الملابس الجاهزة، وفي وجود الشعر الأبيض لسامي حداد وجديته في المناقشة، وبخناقات فيصل القاسم ومناظرته، وتعالي أحمد منصور ودقته، وهدير المدافع الذي يمثله صوت جمال ريان، وزعامة خديجة بن قنة وبساطتها، ورصانة محمد كريشان والتزامه، وازدراء جميل عازر للجميع حتى تصبح ابتسامته ذات مرة بينما تتحرش به ذبابة هي الخبر وحديث الناس!
ونجحت كذلك بكوكبة من المراسلين، ومن حافظ المرازي، صاحب برنامج "من واشنطن” في وقت لاحق، وتيسير علوني من أفغانستان، وبوثائقيات أسعد طه صاحب "نقطة ساخنة”، و”سري للغاية” لصاحبه يسري فودة! إن شئت فقل إنه التنوع، والقدرة على رعايته، ليمثل شاشة واحدة، ولو النجاح بالإبهار لكان من نصيب "العربية” و”سكاي نيوز عربية”، بل و”دي إم سي”، ولو كان بالمباني، لما استطاع أحد منافسة التلفزيون المصري، الذي يبث من ناطحة سحاب، ولو بالمذيع "الفاترينة”، لكان من حظ "روسيا اليوم”، ولو كان النجاح بالالتزام بالقواعد التي وضعت في المقررات الدراسية لكليات الإعلام لكانت الفضائية المصرية هي الرائدة، لكن «الجزيرة» انطلقت لتُوضع قواعد العمل الإعلامي وضوابطه وفق أداء من فيها! نجحت «الجزيرة» بينما تبث من "علبة كبريت”، بحسب المقولة ذائعة الصيت لـ "أبو علاء” حسني مبارك، وقد كانت مقولات المرحوم شحيحة فلم تحفظ له البشرية إلا وصفه للجزيرة.
أو كما قال: كل هذا يخرج من علبة الكبريت هذه؟!
سليم عزوز
صحافي من مصر