وما تزال الأغاني ممكنة (2)

حينما يسرد غازي الذيبة؛ أنصتُ خاشعًا بقلب ثابت.. غازي الذي خفّف عنّي وطأة عمّان.. بل خفّف جبالها عن صدري وكاهلي.. حين قرّرتُ ذات ليل أن أغزو عمّان من القرية.. حين قررتُ أن أكون شيئاً في العاصمة..ومشيتُ بلا أسلحة وركضتُ بلا تروس.. كان غازي وقتها حضني الذي أبكي فيه.. لم يكن أكرم الزعبي وقتها قد جهّز جيوش محبته ولم يراسلني ليخطب ودّي بل لم أكن أعرفه ولم يحدثني عنه الصديق الشاعر المرحوم عاطف الفرّاية لأن عاطفاً لم يكن يعرفه أيضاً في تلك المرحلة.. لذا لم نجتمع أربعتنا قط رغم أننا الأربعة نشكّل دائرة لا مربعاً..!
غازي يتقن الياسمين في الأحاديث .. وأكرم يتقن قيادة القلوب.. وأنا بينهما لا أتقن إلاّ صنع الدربكة.. أعرف كيف أترك نفسي على سجيتها ولا أضع (بريكات) للساني المتبرِّئ منّي.. وعلى هذه الشروط غير المكتوبة بيننا مضينا؛ ياسمينًا بقلوب لا تتوقف.. أرهقنا عمّان فكرًا وشعرًا وسخرية وصراخًا بقدر ما أرهقتنا غربةً وفقرًا وإنكارًا..! طعجنا حكوماتٍ متتالية وما اعتدلنا إلا بعدلنا مع مبادئنا التي لم نتنازل عن شحطةٍ منها إلاّ أننا ندفع الثمن..! طاردتنا نساء عمّان وحاصرننا وصمدنا صمودًا لو صمدته العرب في معاركها لانتصرنا..! كنّا عيالاً بيننا؛ أربابًا لغيرنا..!
مقهى بسمان؛ محطتنا الدائمة.. فيه نبني العالم وفيه نهرب من العالم ومنه نخرج وفي جيوبنا الفراغ واللوعة ولعناتنا على حظّ الطنطات في الصحافة والسياسة والأدب..! هناك.. غيّرنا أقدارًا وهناك خضعنا لأقدار..!
قد لا تكون لقاءاتنا الآن كما السابق؛ فبعد كورونا تغيّرت أقدارنا جميعًا؛ ولكننا ما زلنا على مواعيد مؤجلة مع غزوات (ستاند باي).. غزوات سنغزوها فيها من النمنمة أكثر مما فيها من النميمة.. فيها ياسمين غازي وقلوب أكرم ودربكة عجوز هو أنا لا يريد أن يعترف أن العمر يركض والشعر أكثر من بياض و الحكومات لا تعترف إلاّ بما تريد ونحن ممّن لا تريد..!
لكنّ الأغاني ما تزال ممكنة ..

*كامل النصيرات*
المقال المنشور اليوم في جريدة الدستور
للتواصل على الواتس (0799137048