الكارثة التي لا يعترف بها أحد

ماهر أبو طير
أكثر ما يثير الأسف هذه الأيام، أن عشرات آلاف الطلبة، ممن يسجلون في الجامعات، بعد نتائج القبول الموحد، يذهبون الى تخصصات، بلا مستقبل، وهي مفارقة ان يدرس الانسان أربع سنوات، وينفق مال أهله على تخصص، معروف مسبقا، ان لا وظيفة له.
 
هذه هي الأزمة الكبرى في الأردن، التي لا يتوقف عندها احد، فالكل يريد شهادة جامعية، والاعتبار الاجتماعي، يسبق كل شيء، فالمهم ان يحمل المرء شهادة جامعية، حتى لو كانت مجرد لوحة على الحائط، بلا مستقبل لها، داخل الأردن او خارجه، ولدينا عشرات التخصصات المشبعة، بل والميتة، المعروف انها تفيض بعشرات آلاف الخريجين.
 
أين هو المنطق في إنفاق آلاف الدنانير، من قيمة الرسوم الجامعية، والمصروف الشخصي، وفقا للجامعة والبرنامج الذي اختاره الطالب، وقد يصل وفقا للموازي الى مبالغ مالية كبرى، لكن النتيجة ليست سرا، لأن الطالب الذي يسجل مسبقا في تخصص من عشرات التخصصات، يعرف انه سوف يتخرج، ولا يجد عملا، وكأنه أضاع وقته، وماله، وهو يعرف النتيجة مسبقا، ثم يبدأ بلوم حظه على عدم وجود فرصة عمل، او يهرب نحو الماجستير لشراء الوقت، او الدكتوراة الاكاديمية، فتتضاعف مشكلته لحظتها؟.
 
خذوا مثلا تخصص الطب، إذ لدينا ظاهرة جديدة، تتشابه مع مصر، تماما، حيث يوجد لدينا أطباء يحملون شهادة الطب العام، ويجلسون بلا عمل، لعدم قدرتهم على التخصص لسبب او آخر، ولعدم وجود وظائف، وظاهرة الأطباء العاطلين عن العمل التي نراها في مصر، باتت لدينا اليوم، وبرغم ذلك يذهب الآلاف سنويا الى تخصص الطب، دون ان تتغير خريطة الاهتمامات، في ظل عالم يتغير أيضا، بطريقة متسارعة، فالمهم هو الفخر الاجتماعي الزائف، حول الدكتور او الدكتورة التي ولد نجمها في سماء العائلة.
 
لا تقف الظاهرة عند هذا الحد، بل تمتد الى التخصصات الإنسانية، والاقتصادية، فالكل يذهب لدراسة اللغة العربية او المحاسبة، او تربية الصف، وغير ذلك من تخصصات، وكلها بلا مستقبل، واذا كانت هناك شواغر بعد التخرج فالعمل بأجور منخفضة جدا، حيث يتم استغلال الخريج للعمل دون راتب مقابل الخبرة، او العمل مقابل اجر بالكاد يغطي المواصلات، او الاتصالات في احسن الحالات.
 
المشكلة الأكبر، ان الاستثمار في الشهادة الجامعية بنية الاستفادة من وظيفة خارج الأردن، تبدو غير قائمة هذه الأيام، فالخريج العربي بنفس الشهادة ينافس الأردني، وبأجر اقل، فيما التخصصات التي ليست بحاجة للعرب يتم منحها لكفاءات من آسيا بأجور قليلة.
 
لا الجهات المختصة عالجت هذه المشكلة، ولا الناس يتغيرون، وكأن الكل يعيش في عالم آخر، وهذا العام تستقبل الجامعات الحكومية اكثر من خمسين الف طالب، وتستقبل الجامعات الخاصة والجامعات خارج الأردن، عشرات الاف الطلبة، فنحن امام قنبلة موقوتة من العام 2019 ستنفجر بعد أربع سنوات، أي بعد التخرج، او بعد خمس او سبع سنوات، وفقا للتخصص الذي اختاره الطالب.
 
لقد آن الأوان ان يتخلص الناس من العقدة الاجتماعية حول كون الانسان يحمل شهادة جامعية او لا، عبر إعادة التفكير بكل المنظومة التعليمية، وجدوى التعليم ، وكلفته، إضافة الى اغلاق عشرات التخصصات، وفتح تخصصات جديدة، وإعادة تغيير معايير القبول في الجامعات، وتصحيح المشهد، بدلا من الذي نراه هذه الأيام من وجود نصف مليون عاطل عن العمل، هذا غير الذين يعملون لكنهم يعملون في وظائف ليست على صلة بتخصصهم.
 
بدون كل هذا سيتواصل النزيف الإنساني، وهدر الوقت، وهدر الموارد، دون ان ننسى ان تنافسية الشهادة الجامعية في الأردن، وتنافسية الخريج ذاته، تراجعت الى حد كبير في العالم العربي، مقارنة بالتغيرات الهائلة على مستويات التعليم في دول عربية أخرى، حققت قفزات في التعليم، وتصنيفاته العربية والإقليمية والدولية.
 
ما نراه يعد نوعا من أنواع الانتحار، دون ان ننكر ان من حق الانسان ان يتعلم، لكن أليس فينا من يرى ان الانسان يتعلم ظاهرا، لكنه في حقيقة الحال، ما يزال في نقطة الصفر.