بيوت الغرباء

يبدو أن الفلسطيني أصبح مرآة محتلة، في لعبة ظُلمٍ أُجبِر فيها الفلسطيني على الوقوف وراء المرآة، فأصبح مرآة محتله، ويبدو أنه سيظل كذلك إلى أن يعود إلى التواجد في الجهة الأخرى من المرآة، ليرى الفلسطيني نفسه. تلك مرايا «خورخي بورخيس»، إنها لعبة مرايا، ستتكسر كمرايا سراب عفّان، أو ستُغرِق المحتل كمرايا «بولدير»، أو أي مرآة يجلس قبالتها الغازي، لا يرى فيها وجهه، بل وجه ضحية هرب إلى الخيال، لإنقاذ روحه من سطوة الواقع.

وراء كل تشابهٍ تشابُه، وأمام كل واقعٍ فرضه المحتل واقعاً. احتل أرضاَ، وظنّ أن ذلك يعني الاتكاء عليها، ولمّا لم يشعربالأمان، عمل على فرط الواقع. أمعن في الكذب، لبس ثوب الفلسطيني، تقمص صورته. سرّح شعره على انعكاس مرآته. استخدم مقلاته. سرق منتجاته. أكل الفول، وقلى الفلافل، وأكثر من «الشَّطّة». كيف لا وهو يقف في باب «حُطّة»، بلا عكّاز ولا «حَطّة». كيف يثبّت الصورة. كيف يوازن في الكذب بين صراخه، وهدوء وجه الحجر، واختلاف طينته عن طينة أؤلئك البشر. كيف يجسّر الفجوة بين «الكيباه»، و»الشاش الغاباني».

هل يواصل سرقة الأشياء الصغيرة، ليمنح معدته القوة لهضم الكبيرة، هل يستنسخ الثوب، أم يدّعي زيفه. هل يحرقه أم يتبناه. هل يخفي المعاني، أم يهدم المباني. هل يأكل المفاهيم، أم يتركها للزمن لتتآكل، أم تراه يعيد إنتاجها لينشر مفاهيم جديدة، منها أن يقول مثلاً أن ثوب «الظاهرية» هو الثوب الأصلي لبني قينقاع، وأن ثوب رام الله، هو أصلاً ثوب نساء بني النضير، وهكذا يصبح هناك لون مختلف، وطراز مختلف، لأثواب بني قريظة، ويمكن القول بناء على هذا، أن الفلسطيني وُلِد عارياً، وأن اليهودي نزل من بطن أمه يحمل ثوباً.

أول كذبة رواها «إيلان بابيه» عن المستوطنين الأوائل، وتحديداً الموجة الثانية التي وصلت ميناء يافا. قال: «لم يكن معهم إلا القليل من المال، ولم يكونوا يعرفوا أي شيء عن الزراعة، لأنه لم يكن مسموحاً لهم أن يزرعوا في روسيا وأوروبا الشرقية. ولم يكن عندهم عندما وصلوا أي مكان للسكن. لم يعرفوا كيف سيجلبون قوت عيشهم في بلد جديد يسمّى فلسطين. كانوا محظوظين جداً بأن الفلسطينيين استضافوهم، أعطوهم مكاناً للنوم، وبعض الطعام. علموهم الزراعة ورعاية الأغنام، ولكن في الليل، كان هؤلاء المستوطنين يكتبون مذكراتهم بهوس على ضوء الشمع، يكتبون عن كل شيء، ناموسة قرصت أحدهم، أنهم لم يناموا جيداً، عن النساء اللواتي لم يعجبهن الرجال. وفي مقدمات هذه المذكرات، كتبوا عن أكبر خيبة أملِ عن كونهم في فلسطين، وسبب الخيبة، وجود الكثير من الغرباء، وبشكل خاص أؤلئك الذين استضافوهم، كانوا بالنسبة إليهم غرباء أساسيين، ويكتب أحدهم: وأنا أقيم الآن في بيت أحد هؤلاء الغرباء». يقول بابيه: «فيجب عليك فهم هذه العقلية، وهذه العقلية لم تتغير».

الفلسطيني أيضاً لعب مع محتل أرضه لعبة عجيبة؛ ارتدى ثوبه، سرق مظلوميته، حل محله في أرض شتاته، فعل فِعله، علّم أولاده منح الحنين إلى وطن لم يمنحهم صباحاته ومساءاته، ولم يقطفوا حبة عنب من ترابه، ولم يغرسوا في سهوله غرسة زيتون. لم يأكلوا من مروجه برتقالة. لعب الفلسطيني لعبة نسيان؛ حمل كتابه بيده، لتبقى أرضه امتداد ذاكرته ومخيلته. اتكأ على لعبة انتقام من المحتل، بإجباره على فعل النسيان. اختفى في أحضان خيالٍ للحفاظ على سلامة روحه، وحدّد حدود جغرافية الخيال، من رأس الناقورة شمالاً، إلى الخليل جنوباً، ومن رفح وخان يونس إلى قلب القدس.