تواضع الهاشميين
كنت على موعد في منتصف الثمانينات من القرن الماضي مع صديقي الباحث كايد هاشم لزيارة المؤرخ والباحث الأردني الراحل روكس بن زائد العزيزي. بهرني الرجل وأنا ما زلت شاباً صغيراً، ليس بعلمه وسعة اطلاعه، وثقافته العميقة فقط، بل بتواضعه الجم، إذ كان يستخدم أكثر من مرة عبارات تقدير وهو يتحدث إلينا. كنت في التاسعة عشرة من عمري وهو يوجه حديثه إلي وإلى صديقي، مصراً على عبارة «أخي الأستاذ» مصحوبة بالاسم. إنه يعرف معنى أن يردد على مسامعك اسمك.
وكنت على موعد معه في منتصف التسعينات من القرن الماضي لإجراء حوار نشر يوم الخميس السابع والعشرين من حزيران عام 1996. ازداد الرجل تواضعاً ودماثة. حدثني في ذلك اليوم عن معاناته من اسمه، وكيف خلق له اسمه صعوبات وهو يطوف في البوادي، لجمع تراثها الشفوي، قبل أن يصدر قاموس العادات واللهجات والأوابد الأردنية.
وكنت على موعد في ذلك العام مع الراحل الدكتور ناصر الدين الأسد عندما كان يترأس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، إثر نيله جائزة العويس الثقافية. فوجئت عند وصولي وقد عرّفت على نفسي سائلاً عن مكتبه، برجل يتصل هاتفياً ليقول: خبّر الدكتور أن الأستاذ قد وصل. رافقني أحد الإخوة، لأجد الدكتور الأسد يسير نحوي بخطوات سريعة مرحباً بأجمل العبارات وأكثرها دفئاً، وعندما هممتُ بالخروج، أصرّ الرجل على مرافقتي إلى مدخل مبنى المجمع، وحاولت جاهداً ثنيه عن ذلك وأنا أقطر خجلاً، ولكني لم أفلح. صافحته وأخذت طريقي لألتفت فأجدأن الدكتور الأسد ما زال واقفاً.
تواضع «الأسد»، جعلني أعود إلى صباي يوم وبخني أبي. طلب إلي أن أرافق أحد أصدقائه إلى خارج البيت. لم أكن أدرك ما الذي يريده أبي. عدت مسرعاً. وبّخني. قال: عليك أن تودِّع الضيف حتى يغيب عن نظرك، ولا تعطيه ظهرك إلا بعد أن ترى غبار سيارته أمام ناظريك، لا سيارته.
تعلمت من الكبار، أن المحبة ثمرة من ثمار التواضع، وأن البغض ثمرة الكِبَر، وأن الانحناء أمام الفقير رفعة، وأن الشريف إذا ارتفع تواضع، وأن الوضيع إذا ارتفع تكبّر.
راحت الأيام، وعملت مستشاراً لوزير التربية والتعليم في دولة الإمارات. كان مكتبي في الطابق الخامس من المبنى، وكلما جاءني ضيف، نزلت لاستقباله في الشارع، وعدت لوداعه في نفس المكان مرة أخرى. كانت موظفات الاستقبال يتساءلن عن سبب عناء يجعلني أفعل ما أفعل، حتى زارني ذات يوم رئيس الجامعة الكندية الدكتور غارث جاكسون، وهو دمث الأخلاق، وحدث أن سألني عندما زرته في مكتبه بعد أسبوع، فيما إذا كنت أفعل ذلك مع كل ضيوفي، قلت نعم، ولما سأل عن أصل السبب الذي أكسبني العادة، قلت مازحاً: علّمني أبي هذه العادة السيئة، ورويت له الحكاية. أصيب غارث بالسرطان، وغادر إلى كندا للعلاج لمدة سنتين، ثم عاد سالماً، فسارعت إلى السلام عليه. قال: كانت فرصة طيبة أن ألتقي بأسرتي، وأكسبهم تلك العادة السيئة التي علّمك إياها والدك.
كل ذلك لا يأتي إلا كقليل متواضع، أمام تواضع الملوك الهاشميين، فعندما التحق الصديق معالي الأستاذ أمجد العضايلة - سفيرنا في القاهرة حالياً - للعمل في الديوان الملكي الهاشمي العامر عام 1992، سألته: هل تقابل الملك في عملك؟ قال: نعم. قلت: هل تسلّم عليه؟ قال: نردُّ السلام، سيدنا لا يعطينا فرصة لنلقي بالسلام على مقامه، يبادر بالسلام، ويقول: صباح الخير يا سيدي، فماذا بإمكانك أن تفعل عندما يسلّم عليك رأس البلاد، ويقول لك يا سيدي، سوى أن تتلعثم وأن ترد السلام. وقد حدث أن وجهت نفس السؤال للصديق «أبو غسان» عندما واصل العمل مع الملك عبد الله حفظه الله ورعاه حتى عام 2012، فابتسم وقال: سيدنا ابن أبيه، كريم ابن كريم، ولا يقل تواضعه عن تواضع الحسين ونبله.
سنابل القمح المليئة هي المنحنية، وما تواضع أحد لله إلا رفعه.