"صبرا وشاتيلا".. هذه الروايات
بقلم: معن البياري
بقايا جرحٍ طويلٍ غير منتظم الحوافّ على النصف المرئيّ من وجهها، هي أثرٌ من المذبحة في مخيم شاتيلا في الحورية، كما يسمّي شابٌ فلسطيني بطلة رواية الفلسطيني، أكرم مسلّم، "بنت من شاتيلا" (الدار الأهلية، عمّان، 2019)، لمّا تعرف عليها في مقامها في هامبورغ. والفلسطيني مجد، بطل رواية اللبنانية، جنى فواز الحسن، "طابق 99" (منشورات ضفاف، بيروت، 2014) ثمّة أيضا ندبةٌ في جسده باقيةٌ من أثر المذبحة. وفي نيويورك، حيث يقيم، يتعرّف إلى اللبنانية هيلدا، من أسرة كتائبية إقطاعية، ويحبّها. وإلى هاتين الشخصيتين الروائيتين، الناجيتين من الذبح في المجزرة المعلومة، واللتين جعلتهما الروايتان في المغتربين، الألماني والأميركي، يقيم يوسف سعد الدين في استوكهولم، وكان قد نجا أيضا، في رواية الفلسطيني، سعيد الشيخ، "تغريبة حارس المخيم" (دار ألوان عربية، استوكهولم، 2016)، لمّا كان حارسا في شاتيلا. والشاهد الناجي من المقتلة، كمال، شخصية رواية الفلسطينية، رائدة الشلالفة، "بعد بيروت" (دار فضاءات، عمّان، 2016) جاءت به الرواية إلى عمّان. أما الطبيب أمين، زوج رقيّة وابن عمّها، وهذه شخصية مركزية في رواية المصرية، رضوى عاشور، "الطنطورة" (دار الشروق، القاهرة، 2010)، فقد قتلوه في المذبحة التي أقام أحد أولاده مشروعا في بلجيكا لجمع شهادات ناجين منها من أهالي مخيمي صبرا وشاتيلا.
هذه نتفٌ من بعض رواياتٍ عربيةٍ، حديثة الصدور، اعتنت بجائحة المخيّمين التي اكتمل، الأسبوع الحالي، 37 عاما، على ارتكابها الذي تعاون فيه متعصبّون في اليمين اللبناني الكتائبي العنصري مع محتلين "إسرائيليين". لم يلحق بأيٍّ من الفاعلين، وممن خطّطوا ودبّروا، أي عقاب. ولعلها من النوافل المسترسلة أن ينكتب هنا إن الأدب العربي من تعبيرات الذاكرة الجمعية العربية التي تحمي من النسيان الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين والجزائريين (وخمسة عمال بنغاليين أيضا) الذين قضوا، بالبلطات والفؤوس والمسدّسات والسكاكين، في فظاعةٍ من أشنع ما مرّ في تاريخ البشرية.
وإذا كان في الوسع أن يقال إن روايةً عربيةً أدبيةً عالية القيمة لم تنْكتب بعد عن الواقعة السوداء، فإن موضوعة "صبرا وشاتيلا" ما زالت تشدّ روائيين شبّاناً، جدداً، إلى إنجاز نصوصٍ تصل خيوطا حاضرةً في مشاهد فلسطينية وعربية، فردانية وعامة، بالمذبحة وضحاياها وشناعتها. وأحدث عملٍ أدبي استحقّ انتباها نقديا وإضاءاتٍ جادّةً عليها في الصحافة الثقافية العربية، أخيرا، رواية "بنت من شاتيلا"، والتي يُقدَّر كاتبُها، أكرم مسلّم، على التنويه في "الإهداء" بإعجابه بكتاب بيان نويهض الحوت "صبرا وشاتيلا – أيلول 1982" (مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2003)، المذهل، بحسب مسلّم محقّا.
لا يُغفل تثمين هذه المقالة (أو كاتبِها؟) التفاتَ روائيين عرب جددٍ إلى "صبرا وشاتيلا" هنا عن الفعلة السيئة التي ارتكبها العراقي، علي بدر، عندما افتعل، في روايته "الكافرة" (دار المتوسط، ميلانو، 2015)، حضورا للمجزرة، في أن والد أحد الشخصيات شارك في عمليات القتل، ونادمٌ في مقامه في بلجيكا، قَتل شقيقي شابّة نجت، إبّان كانت طفلة، ووالديها، غير أن ابنه يتزوجها. وقد تخيّلت قريحة الكاتب هنا ما لا يمكن تخيّله، مجرما في "صبرا وشاتيلا" يغشاه ندم. المذبحة التي "تخيّل" اللبناني، إلياس خوري، في روايته "باب الشمس" (دار الآداب، بيروت، 1998) أحد القتلة، واسمه الرئيس جوزيف، يقول إنه عثر على ثلاثة أطفال، وكان يُريد أن يجرّب المدى الذي تستطيعه طلقة مسدس الماغنوم، وانزلق أحد الأطفال أرضا، فتقدّم من الطفلين، وألصقهما ببعضهما، ووضع فوهة المسدس قرب رأس الأول، وأطلق النار، واخترقت رصاصةٌ رأسي الطفلين، فماتا فورا..
.. ألحّت "صبرا وشاتيلا" على المصري، بهاء طاهر، وقتَ صارت، وكان يعمل في جنيف. ظلّت في باله سنوات، ثم كتب روايته "الحب في المنفى" متأخّرا، وصدرت في 1995. قال إنه لم يشاهد المذبحة طبعا، قرأ عنها وشاهد الصور التي شوهدت، غير أنه اهتدى إلى صديقٍ له كان في المخيمين المغدورين، حدّثه في الهاتف عما رأى وعرف، ثم كتب طاهر روايته الرائقة، وقال إنه، طوال فترة الكتابة، كان يشعر بالألم نفسِه الذي شعر به لمّا شاهد صور المذبحة أول مرة..
تُرى، كم هي مقادير الألم الذي يلزم أن تُشيعه الروايةُ المشتهاةُ التي لم تنكتب بعد عن "صبرا وشاتيلا"؟
عن/القدس للأنباء