مصر: الشباب هو الذي سدد فاتورة ثورة 1919
محمد عبد الحكم دياب
ملفات الشباب المصري عامرة بالمواقف التاريخية التي تحسب لدوره في دفع حركات التغيير بمستوياتها المتعددة والمتنوعة، ومع ما يمكن أن نشير إليه من مواقف وطنية ميزت شباب بدايات القرن العشرين.. والدور البارز للزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد في فترة ما قبل الحرب العظمى (1914 – 1918)، وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى طفا على سطح الأحداث مطلب الاستقلال الوطني وضرورة التخلص من الاحتلال، الذي بدأ في مثل هذا الشهر من عام 1882.
وبعد الحرب استقر رأي عدد من الشخصيات العامة والوجهاء والأعيان على تشكيل وفد يحمل تفويضا من المصريين لتمثيلهم في «مؤتمر الصلح»، الذي عقد في باريس في بدايات عام 1919، ولم يوافق المندوب السامي البريطاني على سفر الوفد وتمثيل مصر في المؤتمر، وعلى وقع إصرار أعضاء الوفد ومؤيديهم على موقفهم، قامت سلطات الاحتلال بنفي سعد زغلول، ومحمد محمود، وحمد الباسل، وإسماعيل صدقي إلى مالطا، في الثامن من مارس 1919، وكان ذلك التصرف من المندوب السامي شرارة ألهبت الغضب الكامن في الصدور وأشعل الثورة المتأججة في النفوس.. وعلى إثر ذلك خرجت مُظاهرات المدارس العليا، وشاركهم جميع الطّلاب، ومن بينهم طلاب الأزهر. وما هي إلا أيام حتى امتدت الثورة للقرى والبنادر والمدن. وبدأت في القاهرة بإضراب عمال الترام، مما أدى لشلل في حركة أهم مرفق لنقل الركاب في حينه.
وقامت سلطات الاحتلال في مواجهة ذلك الشلل الذي أصاب العاصمة، قامت بتدريب الجنود عوضا عن غياب المضربين عن العمل، فعجل عمال السكك الحديدية بالإضراب، وتوقفت حركة القطارات بين الأقاليم والقرى والمدن فاضطرت لندن إلى عزل الحاكم العام، والافراج عن سعد زغلول ورفاقه وإعادتهم من منفاهم، والسماح لهم بالسّفر لحضور مُؤتمر الصلح، ونتج عن عدم استجابة إدارة المؤتمر ورفضها مشاركة الوفد المصري وعرض مطالبه، عاد الوفد إلى البلاد واستؤنفت الثورة من جديد، واستمرت حتى صدور تصريح 28 شباط/فبراير 1922، الذي أُلغيت بمقتضاه الحماية على مصر، وإعلانها دولة مستقلة، وبدء ترتيبات وضع أول دستور مصري، وتشكيل أول وزارة رأسها سعد زغلول باشا.
ومن بدايتها حملت ثورة 1919 وجهين متضادين، وجه شبابي ثوري، ووجه آخر تقليدي مسَاوِم يقولون عنه «ليبرالي»، وكانا على خلاف دائم، وكشف الشاعر والباحث تميم البرغوتي في كتابه «الوطنية الأليفة.. الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار»، كشف جوانب من ذلك التناقض حين تعرض للنخبة التي احتلت صدارة المشهد، مؤكدا على أن «هذه النخبة تقدم لعموم السكان الأصليين وعد التحرر، وتقدم للقوة الغازية وعد الحفاظ على المصالح الاستعمارية الحيوية».
ملفات الشباب المصري عامرة بالمواقف التاريخية التي تحسب لدوره في دفع حركات التغيير بمستوياتها المتعددة والمتنوعة، ومع ما يمكن أن نشير إليه من مواقف وطنية ميزت شباب بدايات القرن العشرين
واعتماد طريق التفاوض وحده أضحى ورقة لعبت بها الطبقة التقليدية المتنفذة على جانبي المشهد، فتترك الجماهير الشعبية تُشعل الثورة، في نفس الوقت تدرك خطورة ترك الأمر لها، وعلى امتيازاتها ومصالحها ومكانتها وثرواتها، وتتمسك بورقة التفاوض كطريق للحل وفض الاشتباك بين الثورة والنخب والغزاة، مقايضة تقديم وعد الاستقلال للجماهير الثائرة، والحفاظ على مصالح النخب، وحماية المصالح الاستعمارية الحيوية المتعاونة معها. وذلك ما كان..
ويظهر ذلك التناقض بجلاء إذا ما دققنا في سبب ثورة 1919 المباشر، وتداخل سبب إقدام سلطات الاحتلال البريطاني على نفي مجموعة من أبناء الطبقة التي لها نصيبها المعروف من المصالح مع الاحتلال والقصر الملكي وكبار ملاك الأراضي والرأسماليين.. وذلك لم ينف وجود أسباب كامنة للثورة وضاربة في جذور الموقف من الاحتلال البريطاني لعدة عقود، وأضحى ذلك سببا مباشرا لاشتعال الثورة في ذلك التاريخ الذي حدث فيه «نفي زعيم الأمة» سعد زغلول وثلاثة من رفاقه إلى مالطا.
وتبقى الحقيقة المؤكدة والموثقة تاريخيا أن ثورة 1919 بدأت بالطلاب والشباب، وسقط منهم في أيامها الأولى عشرات الشهداء، رغم الطابع السلمي للمظاهرات. وتَعمَّد الاحتلال مواجهتها بعنف مفرط، دون تمييز بين رجل وإمرأة، أو بين شاب وكهل.. وليس ذلك جديدا على قوات الاحتلال فهذه طبيعتها، راكمت النهب والإفقار والتخلف والعنف والتنكيل لنحو ثلاثين عاما من بدء الغزو وفرض استقرار قوات الاحتلال عنوة في ربوع البلاد، وذلك زاد من ضيق وضجر المصريين من تعامل الحديد والنار، ووصل ذروته مع إعلان الحرب العظمى عام 1914، وفرض الأحكام العرفية، وصدور القوانين الاستثنائية، المُجَرِّمة للتجمهر والاحتجاج والتظاهر والإضراب، وتنفيذ قرارات حَمَّلت المصريين تكاليف حرب باهظة لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وحتى المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية والمعدنية كانت تتم لصالح المجهود الحربي، وإجبِار الفلاحين على زراعة محاصيل تفي بمتطلبات المعارك، بجانب التجنيد القسري لآلاف من شباب الريف للعمل بالسخرة خلف خطوط القتال. وشحَّت السلع الضرورية من الأسواق، وتضاعفت أسعارها بشكل فاق القدرة على الشراء، وبينما كانت صدور الناس مشحونة بالغضب ومعبأة بالثورة، فاق مكر ودهاء النخب وأصحاب المصالح، ومنهم من ركب موجة الثورة ونجح في إفراغها من محتواها، وتحولوا لشركاء أو حماة لأصحاب المصالح، وتمكين أصحابها من إدارة دولاب العمل لمنافعهم، وكما سمعنا عن أغنياء حرب ظهر من صاروا أثرياء ثورة.
لم يُنكر «زعيم الأمة» التزامه الدائم بالتفاوض، ولم يجرب غيره من طرق المقاومة وأساليب المقاطعة، ﻓـ»زعيم الأمة» ﻫﻭ مَن أبلغ «السير رجينالد ونجيت»، في نوفمبر 1918، ﺇﻥ مصر، وهي تطلب الاستقلال تَعِد بعدم المساس بالمصالح البريطانية، وتَعِد بضمان أمن مصالح حكومة «صاحب الجلالة» في الهند، والمرور الآمن في قناة السويس، ومنح بريطانيا دون غيرها حق احتلال قناة السويس عند الاقتضاء.
وبعد نفي «زعيم الأمة» سعد زغلول ورفاقه أكمل باقي «الرفاق» السير على دربه.. وحين توجه وفد من طلاب الجامعة لمقابلة عبد العزيز فهمي باشا، أحد أعضاء «الوفد المصري»، وسألوه عما يجب عمله، طلب منهم العودة إلى جامعاتهم وعدم «اللعب بالنار» كي لا يزيدوا غضب سلطات الاحتلال.. ولم ينس بعض أعضاء «الوفد المصري» أن يرسلوا وهم يتهيأون للسفر إلى باريس، برقيات للسلطان فؤاد الأول يؤكدون فيها عدم صلتهم بأعمال «الشغب».
وفي 24 آذار/مارس، حذر الوزراء والأعيان المصريين من الآثار المترتبة على قطع خطوط السكك الحديدية ومهاجمة الممتلكات. واستحلفوا الثوار باسم مصلحة الوطن الهدوء حتى يستطيع من وُصِفوا «بالذين يخدمون الوطن عبر الطرق المشروعة» المضي قدما في مساعيهم.
هذا وجه من وجوه ثورة 1919 لكنه ليس الوجه الوحيد، وهناك وجه آخر قد تتاح الفرصة لتناوله، ويبقى ملف علاقة الشباب بثورة 1919 مفتوحا، وفيه شبه كبير مع ما يجري حاليا لثورتي يناير 2011، ويونيو 2013.