أيقونة من بلّوط

كانت الصبية هيفاء التي ولدت في بيت يشبه ألعاب «الليغو» في جبل عيبال، يطل بابه الرئيسي على جبل «جرزيم»، أفاقت من نومها، وقد سمعت جلبة في أحياء المدينة، وصوت هرج ومرج، لم تعرف سببه وهي داخل سور دار المعلمات في القدس الغربية، إلا بعد أن وصلت رفيقتها إنعام المفتي باكية منتحبة من شدة الحزن، لتنقل خبر صدور قرار التقسيم الذي يجعل دار المعلمات في حي «مياشيريم»، من حصة اليهود.

لم تكن تلك الحادثة هي الألم الأول لصبية وصلت إلى القدس منذ سنتين من نابلس، فقدت والدها وهي طفلة، ورأت الرجال وهم يحملونه إلى حيث لم تكن تعلم وجهته، كانت صغيرة، ثم فقدت شقيقها الأصغر بضربة شمس قاضية، عندما خرج إلى بستانهم، ليجلب للعائلة صبراً وتينا، لكن هذا ألم فقد من نوع جديد، أنساها لعبة «نط الحبل» في طفولتها، وحمّام «البيدرة» الذي كانت تسمع فيه ضحكات وغناء النساء، وتراشقهن بالماء وهي بصحبة أمها، منطلقة من بيت الأسرة في حارة «العقبة».

كانت هيفاء قد تخرجت من مدرسة العائشية الإعدادية في نابلس، وجاءت تحمل أحلامها إلى بيت المقدس، وتحتمل الغربة وطعام الغداء في الدار من البازيلاء المطحونة غير الطازجة، والقليل من اللحم والرز، من أجل رسالة التعليم التي كانت تعلم حرص أهلها على نيلها، وبشكل خاص أم حملت على عاتقها الهمّ. رأت هيفاء بأم عينها نسف الجنود الإنجليز عام 1936 لبيت «عرفات» المجاور، لأنهم وجدوا فيه بعض رصاصات، ورأت كيف يسحب أشقائها وهم في عمرهم الغض، ليقفوا في الشمس، ويتعرضوا إلى الإهانة والقسوة غير المبررة من قوات الانتداب.

لم يعد مشهد الحاج نمر النابلسي الذي يلبس ملابس بيضاء، ويركب حماراً أبيض، ويضع على رأسه مظلة بيضاء، يبهج الفتاة، فودعت «مس هاكر»، مديرة الدار، وعادت لتكمل دراستها تحت شجرة لوز في فناء البيت، في مدينتها الوادعة بين جرزيم وعيبال.

شاء النصيب أن تصبح زوجة للدكتور محمد البشير، وأن تزور نابلس كل أسبوع، وشاءت الأقدار أن تسقط الضفة الغربية بيد المحتل، وتتوقف الزيارات، كما شاءت أن يصبح زوجها وزيراً للصحة عام 1970، إنها سلسلة من الآلام والأوجاع، فقد الأب، ثم الأخ الأصغر، ثم الوطن، ثم تشاء الأقدار ثانية أن تسمع ملك البلاد ينعى في التاسع والعشرين من شباط عام 1977، الشهيدة الملكة علياء الحسين،

والرفاق شهداء الواجب، ومن بينهم الدكتور محمد البشير.

كانت السيدة هيفاء قد انخرطت في العمل التطوعي منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، ووضع الحسين طيب الله ثراه حجر الأساس لدار ضيافة المسنين عام 1975، وأقيم مبنى على أرض منحتها الدولة بمساحة 20 دونماً. أصبحت مؤسسة منتدى الرواد الكبار، واحدة من أهم مؤسسات العمل الخيري، منحتها السيدة «أم مازن» روحاً ثقافية، ففي هذه الدار، تشرفت بإشهار كتابي «زمن السرد»، في حفل تحدثت فيه السيدة البشير، إلى جانب معالي الدكتور حازم نسيبة، وبمشاركة معالي عدنان أبو عودة، ونخبة من كبار المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي.

في ذلك اليوم، جلست إلى القديرة الأم المثقفة والكاتبة والناشطة هيفاء البشير، قلت لها: لا أريد يا «أم مازن» أن أقول: أحبك، بصفتك أم، هل تسمحي لي أن أقول: «أعشقك»، فابتسمت ابتسامة محبة، وقالت: أسمح. هذه امرأة لا تعرف الاستسلام للألم، لا تفقد الأمل، فقدت ولدها الأكبر الدكتور مازن في حادثة سكتة قلبية مفاجئة، ما أكثر الألم في حياتها، لكن قوة أسطورية تدفعها إلى مواصلة العمل كلما حلت نائبة، لعله الإيمان بالله، لعله اعتياد الألم، لعله متعة العطاء، سعادة المنح، حتى قصصها تبعث على البهجة: الفرح والسعد، حكايات جدتي، فرح وبرج الحمام، وغير ذلك من المجموعات القصصية.

حصلت السيدة البشير على وسام الملك حسين للتميز من الدرجة الأولى، يوم قلدها الوسام الملك عبد الله بن الحسين حفظه الله عام 2007، كما منحها جلالة الملك عبد الله بن الحسين عام 2021 وسام مئوية الدولة في احتفال عيد الاستقلال.

ما زالت هذه المرأة العظيمة واقفة كشجرة بلوط، حتى لو استندت إلى عصا، ويحيط بها أبناء وأحفاد، ومحبون كثر، ومعاونون على مواصلة أداء الرسالة، وفي مقدمتهم الأخت الأديبة سحر ملص التي كتَبَت عنها، وأصدرت عن حياتها كتاباً بعنوان: «»هيفاء البشير..تجربة وحياة»، استأنست بمحتواه قبل أن أكتب هذه المقالة