أوهام لبنانية أثارها سجالٌ حول عميل

زياد ماجد
 
أثارت السجالات التي دارت في لبنان مؤخراً إثر عودة المدعو عامر الفاخوري، المسؤول السابق في الميليشيات العميلة لإسرائيل والسجّان في معتقل الخيام، إلى بيروت مجموعة قضايا ترتبط بالحرب والذاكرة والعفو والتعامل من الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته. وظهّرت عمق الانقسامات بين اللبنانيين واختلافهم العميق على تاريخهم القريب، في ما يتخطّى الموقف من النظام السوري، رغم ادّعاءات المصالحة ووثائق التفاهم والتحالفات العريضة وما نسجته من أوهام وسوء تقدير.

 ويمكن التوقف في هذا الصدد عند نوعين من الأوهام. واحدٌ يميني مسيحي ظنّ سرديّته حول الحرب ومساقاتها ودوره فيها قد تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى بداهة على غيره القبول بها وبحصريّة حقّه في تداولها. وثانٍ يساري شيوعي ظنّ شحذ العصبيات يُعيد له اعتباراً ما فتئ يبحث عنه في نظر أسياد السياسة اللبنانية الراهنين.

 

في الوهم اليميني المسيحي

أثبتت تيارات اليمين المسيحي، بمعظم تلاوينها، أن ما يجمعها لا يقلّ أهمّية عمّا يُثير الفرقة في صفوفها ويدفعها إلى التحالف مع أضداد مسلمين ومع رعاتهم الإقليميين. وقد تجلّى الأمر مراراً في السنوات الأخيرة رغم النفي والمكابرة، إن عند البحث في قانون الانتخاب والتمثيل السياسي الطائفي، أو لدى إثارة قضية منح المرأة اللبنانية الجنسية، أو عند الحديث عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين والسوريّين الاقتصادية والاجتماعية، أو حتى عند الخوض في المزايدات تغنّياً بأمجاد ماض مفقود ومحاولة تعويضه بادّعاءات بعثٍ واستعادة قوة راهنة. وإذا كان العونيّون قد استظلوا بعباءة حزب الله واستعاروا بعض مواقفه المناقضة لجوانب من تاريخهم واستفادوا من براغماتيّته وانتهازيته السياسية ليمرّروا باقي مقولاتهم ويوصلوا أخيراً مرشّحهم إلى رئاسة الجمهورية فيتقدّموا في المشهد السياسي على منافسيهم، فإن الأخيرين، أي مسيحيّي 14 آذار "الحزبيين”، بدوا مع التراجع النسبي للحريرية وتقلّص الرعاية الخارجية لها ودخولها في تسويات سلطوية مع العونيين، الفئة الأكثر اضطراباً في خطابها وفي توهّم قدرتها على توسيع استقطابها. فراحت تقلّد العونيين تارة في تشدّدهم تجاه ما يسمّى "حقوق المسيحيين”، أو تبزّهم تارةً أخرى تغنّياً بالماضي الحربي والكفاحي، أو حتى تُعلي شأن محور إقليمي (سعودي – إماراتي) تريد له التفوّق على "محورهم الإيراني”.

على أن مناسبة رجوع العميل الفاخوري إلى لبنان والتهجّم على المقاوِمة سهى بشارة قلّصا مرّة جديدة المسافة الفاصلة بين التيارات المذكورة، ونقلا العونيين إلى موقع المواجهة مع يسارٍ شيوعي خاض بين العام 1978 والعام 1989 الحرب الأهلية ومقاومة إسرائيل في الوقت نفسه. وممّا نجم عن المواجهة هذه أن معظم مسيحيّي 14 آذار تفاجأوا بسطو العونيين على ما كانوا يتغنّون هم به ويردّدونه في الحرب قبل ولادة العونية ذاتها. وتفاجأوا أكثر بردود أفعال اليساريّين الخارجين من التجارب الحزبية، ممّن ظنّوهم انقلبوا في السنوات الأخيرة على ماضيهم والتحقوا بهم، فإذا بهم يُستنفرون دفاعاً عن سهى بشارة وعما حفرته مقاومة إسرائيل وعملائها في ذاكرتهم وتجاربهم الحيّة.

وفي حين يبدو سبب المفاجأة الأولى جهلهم رغم كل التجارب بمدى براغماتية حزب الله الذي تمنّوا قمعه لاندفاعة حليفه العوني بما يضعفه، فإن مردّ مفاجأتهم الثانية قائم في توهّمهم أن التحالف الظرفي الذي أقامه معهم يساريون للتصدّي لنظام الاغتيالات الأسدي وسيطرته وأعوانه على لبنان، كافٍ لتحييدهم عن أي سجال حول مسألة التعامل خلال الحرب والاحتلال مع إسرائيل، أو لجعلهم يقبلون بتبرير التعامل المذكور بحجة تحالف اليسار وقتها مع المقاومة الفلسطينية.

… وأوهام شيوعيين

في مقابل هذه الأوهام اليمينية المسيحية وتناقضاتها، برزت أيضاً أوهام أحجام وأدوار عند بعض اليسار، الشيوعي تحديداً، قوامُها استغرابان. الأول، ارتبط بصمت حزب الله تجاه السجال بأسره، في حين كان الشيوعيّون يتوقّعون أن ينصرهم في دفاعهم عن مقاوِمة وهجائهم لعميل. والثاني، انطلق من تمنّع اليساريّين المتقاطعين معهم في مواقف مرتبطة بالماضي عن مواكبتهم في الحاضر أو منحهم مشروعية ووكالة ليقولوا ويفعلوا ما قد يؤمّن لهم مواقع في المعادلات السياسية القائمة…

في الاستغراب الأول، يبرز مزيج من السذاجة والرغبة المستمرّة في استرضاء المتسيّد على الحياة السياسية اللبنانية، وتجاهل أنه لا يعبأ بسجالات ولا يتحرّك وفق خطوط أو مبادئ ما لم يكن هو واضعها ومحدّد المعايير الخاصة بها انطلاقاً من علاقة أي طرف به وبمصالحه السياسية والأمنية. أما في الاستغراب الثاني، فتتغلّب الرغبة الشيوعية بأحادية تمثيل اليسار على ما عداها، وتتناسى الخلافات العميقة مع باقي اليساريين حول الموقف من حزب الله تحديداً ومن النظام السوري، المتّهمين باغتيال جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي الأسبق، والملتبسة مواقف قيادة الحزب تجاه الاتهام، بين الحياد والرغبة في التبرئة والتشكيك بالجهات المتّهِمة.

يضاف إلى كل ذلك، أن تأثير الشيوعيين ومعهم جميع اليساريين في التوازنات السياسية اليوم شبه معدوم، وأن استحضارهم من قبل اليمين المسيحي يرتبط بشحذه همماً وعصبيات في بيئاته، تتكئ إلى الماضي كما ذكرنا وإلى أوهام الحاضر، أكثر من اتكائها إلى أي أمر واقع.

في المحصّلة، ذكّر ما جرى بمجمله بهشاشة التفاهمات والتحالفات والخِصامات اللبنانية، وأكّد من جديد تبعثر الاصطفافات التي سادت بعد العام 2000، وانحسرت أسباب قيامها تدريجياً بعد العام 2009، لتتلاشى تقريباً منذ الانتخابات الرئاسية العام 2016…