عدنان ابو عودة .. ذلك المظلوم
المهندس سليم البطاينه
قبل أيام غيّب الموت المفكر والسياسي الأردني عدنان ابو عودة الذي كان من أبرز مفكري الدولة الأردنية في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي ، وكان في بعض المراحل شاهداً وفاعلاً في صناعة الواقعة.
لقائي الأول بأبو عودة كان قبل ثلاث سنوات في فندق الأردن انتركونتيننتال ( عمان ) لحضور فعالية ثقافية وسياسية لملتقى النهضة والثقافة العربي وبدعوة من رئيس الملتقى عطوفة الصديق باسل الطراونة وبحضور شخصيات عربية ودبلوماسية وسياسية من أبرزهم الدكتور ( عبدالله السيد ولد اباه ) أستاذ الفلسفة والدراسات بجامعة نواكشوط الموريتانية ، والدكتور ( علي أومليل ) الفيلسوف العربي المغربي وآخرون من النخب الأردنية والعربية.
واستمرت صداقتي بأبو عودة من ذلك الوقت وحتى يوم وفاته .. كنا نلتقي ونتبادل الآراء والتحليلات وقراءة المشهد السياسي ، كما أنّه كرّمني بزيارة في منزلي بعد خروجي من السجن بعدة أيام.
وبعد كل لقاء بأبو عودة كنت اسأل نفسي : هل يوجد في الأردن من يحترف السياسة ويقدم آراء سياسية من وقت لآخر ؟ ويكون رافعة سياسية ويتمتع بقوة الحجة وبراعة التعبير ؟ نعم ، في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي كانت الأردن تزخر بالعديد من شاغلي السياسية وكان ابو عوده واحداً منهم .. رغم أنه وللأسف بعضًا ممن كتب عن ابا السعيد ناقداً أو متهماً ركز في كثير من الأحيان على فِكرِه من خلال مقاطع مجتزأة أو من خلال ما كتبه آخرون شاركوا في وضع حاجز نفسي بين الناس وبين ابو عودة ولم يخدموا بذلك إلا الاقليمية البغضاء .. وفي كثير من الأحيان تناوشته سهام المتنطعين وأنصاف المثقفين وأتت على فكره ومواقفه غيوم سوداء وحملات تحريض وشيطنة حتى تم حصر صورته بشكل مزور في شخصية اقليمية منغلقة.
فتجار الإتهامات كانوا يطلقون اتهاماتهم ثم يذهبون غير مكترثين بما بعد ذلك.
أحب أبو عودة الأردن وفلسطين بطريقته الخاصة ودوماً كان يردد أن الأردن هو الأب لفلسطين من خلال إيمانه العميق لحتمية العلاقة الوحدوية بين الأردنيين والفلسطينين.
وللحق كان يحمل فكراً عربياً قومياً خالٍ من الإقليمية .. وكان يرى أن الخوف على الأردن ليس حكراً على أحد دون الآخر فالأردن ليست بلد الأردنيين وحدهم ، والوطن كمفهوم شامل لا يقتصر على البقعة الجغرافية والأرض المرسومة بحدود سياسية مصطنعة ، فالعلاقة الوجودية بالوطن لا تنحصر لفئة معينة عن أخرى.
فقد كان يقظًا ويهتم بأدق التفاصيل ولم يحاول أن يتحكر التاريخ لنفسه ، ولطالما عودنا على قراءته للمشهد السياسي الدولي والإقليمي .. فقد كان مجاهداً بآرائه عارفاً ما سيتسبب له من متاعب ، وكان قادراً على ممارسة الجرأة في الحديث والطرح والتحليل وإبداء الرأي في الحق وبسبب ذلك واجه صعوبات ومضايقات وتحرشات.
وكان يعتب عليه البعض أنه كان صاحب مفردات سياسية مثيرة للجدل أحياناً بخصوص عتبة الديموغرافيا السياسية ، وأذكر في أحد المناسبات في بيته بصويلح قال لي : ألم يحن الوقت أن ننسى ما حدث بأيلول عام ١٩٧٠.
وبرأي من اختلف معهم أنه من أكثر النُخب السياسية ذكاء وثقافة وقدرات فكرية عالية .. وكثيراً ما أفصح أبا السعيد اللثام عن كثير من القضايا الإشكالية وأعاد تشكيلها ورؤيتها من زوايا وطنية، فذاكرته كانت ملئية بالكثير وهي تاريخ لمراحل مهمة من عمر الدولة، وكانت لدية رؤيا أنه كلما تطورت الدولة وتقدمت أصبحت القيادة فيها للمؤسسات لا للأفراد.
وهنالك مواقف لأبو عودة لا يعرفها الناس ، ففي موضوع غزو الكويت عندما زار الراحل الحسين بغداد ناصحًا الرئيس صدام بالإنسحاب من الكويت وكان أبو عودة ضمن الوفد المرافق للملك حسين ، وأثناء الحديث شبه الرئيس صدام ضم الكويت بضم الجولان فرد عليه أبو عودة أن الكويت دولة ذات سيادة وأن الجولان أرض محتلة.
وموقف آخر لابو عودة عشية مؤتمر مدريد للسلام سأله نائب الرئيس السوري وقتها عبدالحليم خدام بدنا نسمع رأيك ابا السعيد بالسياسة الأمريكية ، وكان رد ابو عوده يا ابا جمال بعد حفر الباطن اللي مثلي لازم يجي يتعلم منكم ويفهم السياسة الأمريكية.
وشهادة للتاريخ فقد عرفت أبو عودة عن قرب ، معدنه أصيل يعكس صفات التقوى والصبر والفرادة في شخصيته تأتت من رؤيا واسعة ، فقد كان معتداً بنفسه معتزاً بأرائه ، عصياً على التدجين والإحتواء .. وعلاقته بزمنه كانت متوترة وقلقة لحد ما بسبب ثقافته وفكره ، وسيرته تميزت بالكثير من المحن ، وكان مثقلاً بهموم الوطن ، والتفت إلى أحوال الأمة فوجد البطولات التي يفتخر بها العربي قد تغيرت وحل مكانها الذل والهوان والرضوخ والإستسلام.
لم يبق لي ما أضيف بعد أن أفضى ابا السعيد إلى ربه .. فقد آن الأوان لإنصافه وأن تُحفظ مكانته فهو أحد مفكري ورواد الفكر العربي وليس الأردني فقط .. فله مكانة لا تُداني في عالم السياسة والفكر.
فقد تعرض للظلم ورحل في صمت وفي ذلك خير له في هذا الزمن الأعوج ، وإن نقاد اليوم والغد سيقفون عند سيرته فهو يستحق أن يكون المُفكر والسياسي العنيد الذي ظُلم حياً.