لماذا لا تساعد الحكومة البريطانية المسيحيين العراقيين؟

هيفاء زنكنة

 
في مقابلة مع «راديو 4 ـ البي بي سي»، بلندن، صباح يوم الاحد الماضي، تحدث القس العراقي جرجيس، ضمن الفترة المكرسة للبرنامج الديني، عن مأساة المسيحيين في العراق، تعرضهم لشتى الضغوط، ومعاملتهم كأقلية من المستحسن التخلص منها، بأي طريقة كانت، بضمنها التهجير القسري والاغتيال. وكان حديثه مؤثرا حين أكد اختياره البقاء في العراق، لمساعدة الناس، على الرغم من كل التهديدات التي يتلقاها، متسائلا بأسى يعصر القلب بما معناه: أليس العراق وطن المسيحيين منذ العصور السحيقة؟
تحدث القس، ساردا قصته الشخصية، متجنبا الأرقام والاحصائيات، على أهميتها، لأنه من الصعب فهم معنى الأرقام والاحصائيات حين تتعلق بجوانب الحياة اليومية. وتزداد الصعوبة، حتى تكاد تكون مستحيلة، عندما ترتبط بالحياة الانسانية نفسها، وترتفع الأرقام لتتجاوز الآلاف، ما لم يتم ربطها بقصة، يمكن للمرء التماهي معها، بدرجة من الدرجات، لتقترب الأرقام من الأذهان. ولكن، كيف يمكن التقريب بين أعداد ضحايا الحروب وقصصهم، لاستيعاب محنتهم، وقد تجاوزت أعدادهم الملايين، وهي في نمو يزداد تسارعا بمرور الايام، لتشمل، بدرجة أو أخرى، في حصيلة الأمر، كل الناس على اختلاف قومياتهم وأديانهم؟ وكيف يمكن تلافي استخدام القصص الانسانية لاستغلال تعاطف الناس وتجييشهم لصالح أجندة سياسية محددة أو مشروع كولونيالي؟
يمنحنا تاريخ الكولونيالية وحاضرها الاستعماري الجديد، عديد الامثلة على استغلال ظلم الأقليات لتفتيت القضايا وجعل حتى أكثر القضايا إنسانية «غيتو» لما يطلق عليه «تنافس الضحايا»، للفوز بالحماية من ذات الجهة او القوة المسببة للمأساة أو من ترتكب ذات الجرائم ضد آخرين. فمن من الناس لم يتعاطف مع الشابة اليزيدية نادية مراد، التي مرت، بابشع الظروف على يد مقاتلي «الدولة الإسلامية»، وكيف باتت رمزا وصوتا للضحايا من أهلها وأتباع دينها؟ وكان من المفترض ان تكون صوتا للضحايا في جميع انحاء العالم، بعد تعيينها سفيرة للنوايا الحسنة من قبل الأمم المتحدة، وفوزها بجائزة نوبل، الا انها قبلت بتسخير مأساتها لصالح الكيان الصهيوني (تعمدا أم سذاجة؟) حالما دعيت لزيارته، بدعوة من نائبة صهيونية، لتتحدث في الكنيست عن مأساة «شعبها» والعمل مع « «الإسرائيليين» على انهاء الظلم ضده، متجاهلة بذلك الظلم المستمر الذي توقعه حكومات الكيان الصهيوني، الاستيطاني، العنصري، المتعاقبة ضد الشعب الفلسطيني، بمن فيه النساء الفلسطينيات. هكذا تتم تجزئة معنى «الظلم» ومفاهيم تحقيق العدالة وانهاء الاحتلال، وفق انتقائية منهجية تماثل حماية الغيتو العرقي أو الديني.

إذا كان النظام العراقي قد بذل أقصى جهده، منذ الاحتلال الذي لعبت فيه بريطانيا دورا رئيسيا، عام 2003، لمأسسة مجتمع تسود فيه طائفة واحدة، وأعداد المهجرين قسرا الكبيرة، فانها اختارت التعامي عن مسؤوليتها في الانتهاكات
يأخذنا نموذج نادية مراد، وهي ليست الوحيدة من نوعها، الى البناء الإعلامي حول القصة الشخصية، لجذب الانتباه الى قضية انسانية، واضاءة أحداث قلما يتم الانتباه اليها، اعلاميا، على الاقل، في خضم تسارع الاحداث اليومية المتأججة، فعلا، خاصة في بلداننا، أو المسيرة وفق أجندات سياسية واقتصادية، في جميع انحاء العالم. يقابل الجانب الإنساني الايجابي، فيها جانبا آخر يمنحها امكانية الاستخدام للتضخيم والمبالغة، وتعمل على الغاء قصص الآخرين، او التغطية على جوانب قد تكون اكثر اهمية من غيرها.
خلافا للكثيرين ممن يتم استدراجهم، إعلاميا، للتفوه وفق اجندات جاهزة، تحدث القس جرجيس، بعاطفة عن العراق وعن اسباب اختياره مواصلة العيش فيه، لافتا، في الوقت نفسه، الانظار الى مأساة تفريغ البلد من أهله. وهي نقطة مهمة جدا للدلالة على سياسة نظام يدعي الديمقراطية وتمثيل المواطنين، بينما يقمع معظم المواطنين، وتتنافى سياسته وفساده وممارساته الطائفية، مع أبسط مظاهر الديمقراطية وحقوق الانسان، بضمنها حرية المعتقد الديني. وهي النقطة الجوهرية التي تجاهلها البرنامج الديني الذي فضل إعلاميوه التمشي على سطح مأساة المسيحيين بالعراق بدون التعمق في الاسباب التي أدت الى التحول المذهل تجاههم، في بلد هم جزء لايتجزأ من تركيبته التاريخية. بالاضافة الى ذلك، تم، بعد مقابلة القس العراقي، تقديم موجز لتقرير أعده أسقف كنيسة تورورو فيليب ماونستيفن، بناء على تكليف وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت، بعد أن سادت حالة من الغضب حيال المعاملة السيئة والتهديدات بالقتل التي تلقتها الباكستانية آسيا بيبي بعد اتهامها بالتجديف في باكستان. يكشف التقرير، الذي تشكك جهات علمية بصحة طريقة التوصل الى نتائجه وإحصائياته، الى ان 80 بالمئة من المسيحيين يتعرضون للاضطهاد، وان «المسيحيين هم أكثر الجماعات تعرضا للاضطهاد الديني»، وأضاف جيريمي هانت، قائلا: «في بعض المناطق، يقترب مستوى وطبيعة الاضطهاد من التعريف الدولي للإبادة الجماعية». مبينا ان سبب الامتناع عن مواجهة هذه المشكلة هو «وجود قلق في غير موضعه حيال أن يكون الخطاب في هذه القضية صادرا من استعماريين عن دين يرتبط بقوى استعمارية أكثر من ارتباطه بالدول التي دخلناها كمستعمرين».
وهو محق طبعا فيما يخص ارتباط الدين، اي دين كان بالقوى الاستعمارية وسياسة الدول القمعية، فضلا عن الاستغلال الاقتصادي، حيث تشكل الحملة العسكرية التي شنها جيش ميانمار وأدت إلى مقتل الآلاف وتهجير أكثر من 700 ألف شخص من الروهينجا، الأقلية المسلمة، في ظل نظام «ديمقراطي»، أحد الامثلة الحية. كما هو العراق الذي اختاره وزير الخارجية للاستشهاد باحصائياته قائلا» تراجع عدد المسيحيين، في العراق، إلى 120 ألف مسيحي مقابل 1.5 مليون مسيحي قبل 2003». وكان المطران بشار متى وردة، رئيس أساقفة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، في زيارة له الى لندن، في 25 أيار/مايو، قد أكد «انه منذ الغزو الأمريكي للعراق الذي أطاح بنظام صدام حسين في عام 2003، تضاءل عدد المسيحيين بنسبة 83 في المئة»، مطالبا الحكومة البريطانية، في لقاء له مع وزير الخارجية، أن توفر مساعدة عاجلة للأقلية المسيحية.
ما هو نوع المساعدة التي قدمتها الحكومة البريطانية، حتى الآن، للمسيحيين العراقيين وغيرهم ممن يعانون من الاضطهاد والتمييز ومصادرة الحقوق بانواعها، باستثناء منح اللجوء لقلة منهم؟ والسبب؟ اذا كان النظام العراقي قد بذل أقصى جهده، منذ الاحتلال الذي لعبت فيه بريطانيا دورا رئيسيا، عام 2003، لمأسسة مجتمع تسود فيه طائفة واحدة، حسب كل التقارير الحقوقية المحلية والدولية، واعداد المهجرين قسرا الكبيرة، فانها اختارت التعامي عن مسؤوليتها في الانتهاكات والجرائم المرتكبة تحت الاحتلال بل واستمرت في بيع السلاح وتقديم الدعم المعنوي، والاكثر من ذلك الصمت على ممارسات النظام، في اجواء هيأت الارضية للإرهاب، وعدم اتخاذ اية خطوة رادعة بحق المسؤولين وعدد منهم من حاملي الجوازات البريطانية. وهذا ما لم يتطرق اليه مقدمو البرنامج البريطاني أو وزير الخارجية، عند الحديث عن مأساة المسيحيين، متجاهلين مأساة الشعب الذي يعيش آثار جريمة الاحتلال، بشكل يومي من إرهاب واغتيال واحكام اعدام وهدم للبنية المجتمعية، لبلد هو ملك لكل اهله وليس لطائفة أو دين أو عرق «مختار».