المعلمون وقوة المعنى

ابراهيم غرايبة
 
ليست قضية المعلمين بعيدة عن أزمة المعنى، فالإنسان ظل يحاول على مدى تاريخ وجوده أن يجعل هذا الوجود يتجاوز البقاء على قيد الحياة إلى تحسين هذا البقاء، والبحث والتأمل المتواصلان في الحياة والوجود في تجاه مواجهة المخاطر ومراجعة الأخطاء أو في إضفاء جوانب من الجمال والعمل والإبداع تخرج الحياة من حاجة البقاء والخوف والضرورات إلى منظومة من الحياة تضمن البقاء وترتقي به، ما الذي يجعل الإنسان يرتقي من مجرد البقاء حيا إلى وجود أكثر جمالا وأمانا؟
الإجابة العملية والبسيطة هي المعرفة وما ينشأ عنها من تقنيات وتطبيقات ثم القيم الاجتماعية والأخلاقية التي تنظم وتحمي هذه الأعمال والمكتسبات، وكان المعلم بما هو أيضا الطبيب والقاضي والمرشد المعرفي والديني هو الشخص الذي تسند إليه المجتمعات هذا الدور، وقد ظل المعلم فترة طويلة من عمر الإنسانية يقوم بجميع الأعمال السابقة (المعرفة والعلاج والإرشاد والقضاء والتعليم) في وقت واحد، وكانت جميع هذه المهمات وغيرها يقوم بها شخص واحد، هو المعلم.
لكن كيف تحول المعلم الذي يمنح الناس جميعا المعرفة وفرص التقدم في الحياة إلى عامل فقير مهمش يواجه أزمة المعنى في الوقت الذي يمنح المعنى وفرص التقدم للأجيال؟ الحال أنها أزمة المعلم وجميع الوظائف والأعمال التي تستمد وجودها وأهميتها من السلطة و أو المجتمعات، فالتعليم والإرشاد كما الوظيفة العامة أنشأتها المجتمعات والحكومات لتحقيق أهدافهما، وهي ببساطة التنظيم الاجتماعي والأخلاقي للمواطنين والفاعلين الاجتماعيين، وتهيئتهم لأدوارهم المستقبلية وتزويدهم بمهارات الحياة التي تمكنهم من عضوية المجتمع والانتماء إليه، وهكذا فقد بدأت أزمة المعلم مع نفسه ومع المجتمع والأسواق والدولة عندما بدأت أزمة الدولة والمجتمع، هي أزمة تعكس القلق العميق حول دور ووجود الدولة والمجتمعات في قابل الأيام.
ونلاحظ بالطبع كيف تحول المزارعون الذين كانوا يشكلون أكثر من 80 في المائة من السكان والأعمال والموارد، وحتى الأعمال والموارد الأخرى كانت مرتبطة بالزراعة، لكن الزراعة اليوم تنحسر حصتها في الاقتصاد والأعمال إلى درجة الاختفاء، ولا يختلف حال جميع موظفي القطاع العام عن المعلمين في أزمة الوجود والمعنى، إذ تتراجع دخولهم وحصصهم في سوق العمل، وتتلاشى أيضا كثير من الوظائف والأعمال في القطاع العام.
لكن الضربة الجديدة والمخيفة التي تصيب العمل جميعه أو معظمه في مقتل هي انفكاك العلاقة بين العمل والاقتصاد، فالأعمال التي أنشأتها الثورة الصناعية وصعدت معها كثير من المهن والسلع والخدمات والأسواق تتلاشى هي أيضا، وليس إضراب المعلمين في واقع الحال سوى حراك فئة من العاملين تملك فرصة متبقية من التنظيم والتأثير للمطالبة بحقها، ولهذا السبب فقد حظيت قضية المعلمين بتضامن اجتماعي كبير، فالمعلم اليوم هو طليعة المواجهة التي يشعر بها أغلب الناس مع التهميش والمجهول والتحولات الاجتماعية والاقتصادية.
يفترض في الحكومة والمؤسسات والشركات الكبرى والقيادات السياسية والاجتماعية أن تجري عمليات استماع واسعة وعميقة لتوزيع وإعادة توزيع الأعمال والموارد وتقدير الفرص والتحديات الجديدة الناشئة، لكن النخب السياسية والاقتصادية تصرفت بالخوف نفسه الذي تسلكه الجماعات والطبقات، وبدلا من أن توظف إمكاناتها وموقعها القيادي ومواردها المالية والمعرفية في استيعاب الأزمة فإنها تنكص على نحو يستعيد ذاكرة الصيادين، إذ تحاول أن تحمي نفسها بالحصول على أكبر قدر من المكاسب السريعة وتواجه الخوف والتراجع في الأعمال بمنظومات من العجرفة والاحتكار والامتيازات.
لكن وبالطبع هناك فرص عملية وممكنة لمواجهة الأزمة بل وتحويلها إلى مكاسب وأعمال وموارد جديدة.