العباءة !


الأستاذ الدكتور: رشيد عبّاس
أعترفُ أنني أزور بين الفينة والأخرى محلات الملابس الأوروبية المستخدمة (البالة) باحثاً عن بعض الماركات الأوروبية وبالذات ماركة قمصان (كالفن كلاين) الأمريكية, حيث أن مثل هذه المحلات تستورد بضاعة أستوكات غير ملبوسه إلا أن موديل إنتاجها قد مضى بالنسبة لهم, وجديد بالنسبة لنا, وحين تفقدي لماركة قمصان (كالفن كلاين) الأمريكية وقعت عيني على عباءة سوداء مقصّبة بخيوط ذهبية لامعة معلقة على جسر تعليق قمصان (كالفن كلاين), وقد تفاجأت بذلك واستدعيت على الفور صاحب المحل والذي يكني بـ أبو ياسر, وسألته عن سبب تواجد مثل هذه العباءة في البضاعة الاوروبية! أجاب باختصار هكذا جاءت مع (البكجة) أو (البقجة), لم احدد بالضبط طريقة اللفظ, وأنصرف من أمامي وذهب لمشتري آخر.
للأمانة, تركتُ قمصان (كالفن كلاين), وأخذتُ اقلّبُ العباءة ذات اليمين وذات الشمال, وتساءلتُ بنفسي كيف كان خط سير هذه العباءة؟ هل خرجت من بلادنا مرور بأوروبا وصولا إلى أمريكا حيث شحن قمصان (كالفن كلاين) من هناك؟ أم انها وقعت بالخطأ مع هذه البضاعة ولم تخرج من بلادنا؟ وقد زاد من اهتمامي بها شعوري الفضولي أن صاحبها ربما كان ذو شأن كبير, وقد خاض بها جولات وجولات من الجاهات والعطوات وحل الخلافات النزاعات بين الناس, صدقوني أن هذا الشعور قد أرتابني وأنا التف وأتفتّل من حولها ذهاباً وإياباً. 
وبين هذا وذاك تجرأتُ بسؤال جسور لصاحب المحل أبو ياسر, علماً أنيي ترددتُ طرحه كثيراً وكان يدور حول سعرها, وجاءني الجواب كصاعقة مرت مسرعة من خلف أذنيّ.. حيث قال بـ(ثلاثة دنانير), صدقوني انني سمعتُ الثلاث.. ثلاثين, وكررت السؤال عليه مرة ثانية كم سعرها؟ فأشار لي أبو ياسر بيده رافعاً كفهُ اليسرى ضاماً منها الابهام والسبابة فقط, وفاتحاً الوسطى والخنصر والبنصر, عند ذلك ايقنتُ أن ثمنها (ثلاثة دنانير) فقط, لقد تكسرت عندي كثير من الحقائق الراسخة تلك التي رسمتها عن هيبة العباءة ومكانتها المعروفة سابقاً.
طرحتُ سؤال غيور على نفسي, من الذي أوصل هذه العباءة إلى هذا المستوى من التردي؟  
يبدو أن العم أبو ياسر لا يدرك القيمة الوجاهية للعباءة, فأحيانا يضعها بين القمصان الأوروبية, واحياناً يضعها بين البناطيل الأوروبية, واحياناً أخرى يضعها بين الجاكيتات الأوروبية, وأينما كانت معلّقة في المحل وبسبب قامتها الطويلة فأن شيء منها كان يلامس أرضية المحل المدعوسة, وأرضية المحل لا تعرف كيف خاضت مثل هذه العباءة جولات الجاهات والعطوات, وكيف حلّت الخلافات والنزاعات بين الناس.
 أيها الرجال: حافظوا على قيمة عباءاتكم, حتى عند استبدالها وشراء غيرها حافظوا عليها, ولا تتركوها ترزح في محلات بيع الملابس الأوروبية المستخدمة (البالة), فمهما كان..فأنها تبقى تحمل شيء من بعض القيم التي حملتوها, خصوصاً إذا ما وصل ثمنها (ثلاثة دنانير) أو ربما اقل من ذلك, والمصيبة الكبرى إذا ما أشتراها رجل لا يعرف متى وكيف ولماذا يلبسها.., أما انتم أيها الأبناء: حافظوا على عباءات آباءكم السوداء بعد أن يلبسوا (العباءات البيضاء).. ولا تتركوها تذهب هنا وهناك تعانق قمصان البالات, وتُرص بها صفوف بناطيل البالات.