التفكير المستقيم والتفكير الأعوج


بكر ابوبكر
كنت قد قرأت الكتاب منذ 30 عاما مضت حيث أثارني العنوان وحفّزني للحفر في جنباته، فكان ما كان من اسقاطات وتأثيرات لهذا الكتاب، ولأمثاله الكثير الأخرى التي جعلت من مسار حياتي يتخذ شكلا أكثر اقترابًا من الشكل الذي أنا عليه اليوم.
كانت الترجمة لكتاب: التفكير المستقيم والتفكير الأعوج لحسن سعيد الكرمي لصالح عالم المعرفة ضمن سلسلة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، والترجمة للمؤلف روبرت هـ. ثاولس الصادرة في أغسطس 1979 وقرأتها بعد مؤتمر حركة فتح الخامس الذي حضرته في تونس وقبل مؤتمر اتحاد الطلاب (الاخير!) عام 1980 الذي حضرته في بغداد!
 
ولأهمية الكتاب السلسلة (السلسلة بإشراف أحمد مشاري العدواني منذ العام 1978) لم أتوانى لأكثر من فترة وفي أكثر من مقال أو دراسة أو محاضرة أو في دورات فن الحديث والكلام التي عقدتها ما بين تونس والسويد وفلسطين والهند والدنمارك وألمانيا أن اعتمدت في بعض أجزائها على اقتباسات هامة من الكتاب ما يدلّل على أهميته من جهة وأهمية القراءة عامة من جهة ثانية ثم المراجعة والاقتباس من الخبرات والتجارب والكتب من جهة ثالثة.

 بعد كل تلك السنوات عدتُ لنسخة الكتاب ذاتها، ولكن اليوم بصيغتها الالكترونية، لأعيد النظر فيما قرأته ولأحاول أن أسلط الضوء على بضعة نقاط قد لا تغني عن قراءة متفحصّة للكتاب لمن يبتغي.

الكتاب البارز يتحدث عن الاتصالات والخِطاب (المخاطبة) أنها قد تأخذ طرقا مختلفة مثل اعطاء المعلومات والدلالة على موقف انفعالي والاستفهام عن واقعه أو كلمة، والطلب للقيام بعمل ما مضيفا اليها نظم الشعر والقاء النكتة والمخاصمة وفضّها والتحية والسلام، ليقرّر أن هناك طرقا مختلفة في استخدام اللغة التي قد تثير الخلط في التفكير أو الحديث (المخاطبة) والتعبير.
         
 والتي يضرب عليها مثالا بالقول لشخص ما أنك ثابت على مبدئك، أو أنك عنيد في تمسكك برأيك، أو انك عنيد كالتيس! فالثلاثة أقوال بنفس المفهوم، ولكن شتان بينها بين الاستهجان والاستهجان الشديد والاستحسان. وكمثال آخر أنت تقول لشخص أنك أسود أو زنجي أو عبد وهكذا وما تنطويه استخدامات الكلمات على ايحاء او انفعالات.

        
 في سياق عرضه الشيق والصعب أحيانا للجوئه للمنطق والفلسفة يشير للتلاعب بالألفاظ الذي يلجأ لها البعض، فما بالك اليوم في ظل غزو وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تبقِ لأحد أن يفكر بموضوعية وعقلانية في ظل عقلية السخرية والاستقباح والكلمات المشحونة التي تطمس معالم المشكلة، وتضلل الكلام.
          
يمكننا الإشارة الايجابية لشخص بالقول: إنك مؤمن بما تقول لدرجة شديدة، وقد أقول انك متعصب لأرائك، وقد أقول أنك مكبّل بأفكار عفى عليها الزمن! وشتان بين الصيغ الثلاث التي تمر بين الاستحسان والاستهجان والاشمئزاز والنفور.
حين يتعرض الكتاب للكلمات الانفعالية والمشحونة فإنه يفترض عقلانيا الحذر حين استخدامها،   ويستثني الشعر الذي تعد الكلمات الانفعالية فيه مساحة للخيال الجميل والكلمات الانفعالية، وفي تعرضه لمثل هذا الاسلوب من الاستخدام يقول أنه (يجب ألا نستعمل كلمات تنطوي على أحكام خلقية في أثناء المحاججة ما هو عادة محاولة لتشويه رؤية السامعين للحقيقة عن طريق اثارة الانفعالات) كما القول أن هذا الكتاب رديء أو جيد ما يعكس بالحقيقة أهواءنا وبالتالي يفتقر للدقة العلمية.
          
ورغم ذلك فإنه يشير الى أن المحادثة تكون فاترة إن لم تتضمن ما يشير الى احساس المتكلم تجاه ما يتكلم عنه، وإنه لا غنى في حالة اللجوء لإقناع الناس عن استخدام الانفعالات، ولكن في إطار فهم الديمقراطية الفعالة التي يعرفها أنها (تتطلب وزنا هادئا من أجل التوصل للقرارات الضرورية ما يحول دون استخدام الخطب الانفعالية ... ص22).
          يشير الكاتب الى السياسيين اللذين يستخدمون الكلمات الانفعالية لشرٍ متأصل فيهم خاصة من لهم لون سياسي واضح فهم (يظهرون عجزا واضحا عن التفكير  الرصين والموضوعي في أي قضية. فقد عوّد هؤلاء أنفسهم على التفكير عن طريق كلمات أو عبارات ذوات صبغة انفعالية وأدمنوا على ذلك حتى أنهم لا يستطيعون من بعد، أن يفكروا بغير هذه الطريقة. هؤلاء كان ينبغي عليهم أن يكونوا شعراء أو خطباء محترفين، وليس لهم حتماً ان يكونوا من رجال السياسة والحكم – ص 28)
وموضحا بتشديد إن ذلك لا يعني بالطبع أن نحرّم على أنفسنا استخدام الكلمات الانفعالية أبدا في تفكيرنا، وإنما يعني ان نكون علم باستخدامنا لها ووقتها وطريقتها، وترويض أنفسنا لقولبتها بكلمات محايدة انفعاليا لا أن نقع في (أسر العبارات والجمل الانفعالية).
 يتعرض الكتاب لاستخدامات الكلمات والعبارات (كل أو بعض)، والى البرهان استنادا لأمثلة منتقاة فقط، والى الاحتيالات والغش في الجدال، والاحتيال لاستدراج الخصم، واستخدام العبارات السفسطية (السفسطائية)، والتعلق بنقطة هامشية، والروغان (المراوغة) عبر نقل المناقشة لموضوع آخر ، والتنكيت، والحيلة بالبدء بقول متطرف فإن لقى هجوما يعتدل.
 ويتعرض لاستخدام الحجج غير المنطقية والقياس الفاسد، والخدع الكلامية، وحيلة الوسط بين طرفين متنازعين، ويضع فصلا كاملا عن المغالطات المنطقية حيث استخدام مقدمات ليست بالضرورة ذات صلة للوصول منها لنتيجة أو ما يسميها "الحجة العوجاء" بأن يتخذ النقطة المتنازع عليها كمبدأ متفق عليه (!؟)
 وبالطبع عبر شحنها انفعالياً (ص69).
  
ينتقل في فصل آخر للحديث حول استعمال الكلمات وخلاف التعريفات المتعددة، لاسيما وان أوجه استعمال الكلمات يتقلّب ويتغير مع الزمان (ص80).

 وينتقل لسوء استعمال التفكير النظري حيث أن (التفكير بدون وقائع كافية لايؤدي لمعرفة تامة بل الى أخطاء وضلال ص83) مشيرا الى أنه (إذا تناقض قولان فأحدهما أو كلاهما باطل) ولكنه يؤكد على أهمية التفكير النظري البحت او المجرد كالرياضيات مربوطا بالتجربة العلمية.

في المشكلات اللفظية والمعاني قد نجد الابهام أو التقلب وبالتالي الاعوجاج هذا حينما يستخدم شخص ما كلمة في ثنايا خطابه بمعاني مختلفة. ثم يتعرض لحيل الايحاء للآخرين عبر التكرار بكلمات مختلفة مثلا، وعبر التحوير وباستخدام لغة الجسد الواثقة أو وجاهته ومنصبه، ولا يغيب عنه ذكر حيلة استخدام الرطانة العلمية وباللغة الاجنبية (ص125) كوسيلة لا كتساب قيمة أو وجاهة، وأيضا حيلة الجواب بصيغة السؤال.
يستحق أن نقرأ ونعي، ونعود لما قرأنا فقد نكتشف الكثير من التغيرات، أو نكتشف الكثير مما فاتنا.