ماءُ زَهر - محمد كناعنة

ماءُ زَهر - محمد كناعنة 
دار فضاءات - عمان- ٢٠٢١ 
( هامش للزمن- تلك الحياة) 
سليم النجار 
توطئة 
محمد كناعنة، أسير محرّر، اعتقل عدة مرات عديدة، خبرَ السجون والزنازين منذ الطفولة، اعتقل أول مرة وعمره أربعة عشر ربيعا، أمضى في سجون الاحتلال عشرة أعوام ونيف على فترات مختلفة، يقبع حاليا تحت طائل المحاكمة والاقامة الجبرية في إطار الملاحقة السياسية التي يتعرض لها.
- للكاتب العديد من الإصدارات نذكر منها: 
١- " عناوين في الميزان" - مجموعة مقالات سياسية إجتماعية كتبها في السجن وكانت تنشر في الصحف والمواقع المحلية. 
٢- في وصف الهامش - قراءة في واقع فلسطينيو "٤٨" صدر عام ٢٠١٥ عن دار ابن رشد - القاهرة 
٣- "بمشيئة الملاح"، مجموعة قصائد ونصوص كتبت في الأسر ، صدر عن دار فضاءات في عمان.

كيف تحزن بسرعة 
الحاجة هنا، يا صديقي، فتّاكةٌ، لا تشبه الفاقة التي في بلداننا. هناك يقضي الإنسان حياتَه يتخّبط بين المتطلبات القُصوى من مأكل ومسكن وزواج ونَسل بلا عَدِّ وفرح نادر ومآتم وأقدار، بل القَدَر المحتوم يحمل حرمانَه إلى يوم موعود في جنّة، تحت أقدام الأمهات، الحاجة هنا، يا صديقي، وأنت تعلم، إنما أذكرك من خلال هذه الكلمات، هي ما يسمّى عندنا الرفاه، هكذا فالبون شاسع. العطلة، الموسيقى، المسرح، الحبّ أيضاً، هو فعلاً رفاهيةٌ، لأن الفقراء لا يجدون له الوقت والإمكان، الحبّ يأتي بعد الحاجة الجنسية وفوقها، مَنْ يتصوّر غير ذلك إنما يتحايل، إن وعَى طبعاً على كتبه، كي لا يُفتضَح أمرُه مع نفسه، فيشعر عندئذ بضعفه. الحاجةُ هنا كتابٌ الزاد الذي بلا نظير٠ فكان ديوان شعرك "ماءُ زَهْر"، الذي ابدعته في معتقلك الإسرائيلي، هو مكانك حيز وجودك كفلسطيني، هو تواجد الشخوص والأشياء، أيضا هو البعد الظاهر/ الخفي في العمل، ثم هو من عناصر التجسيد لجملة الأفكار والرؤى لنصك الشعري:
( زنزانةٌ كَبيرَةٌ 
جُدرانها خشنةٌ 
بنقيضِ من أغدقتهم بالألم 
شاخِصَةٌ 
على شوقٍ عَظيمٍ لِوطنٍ صَغيرٍ 
بحجمِ قَلبِها ص٢١)٠ 
إنه إذا البوتقة التي بها وفيها تكمن الأفكار والمشاعر وتبرز من خلاله الأحداث والصراعات بين الإنسان ونفسه، بينه وبين الآخر بل ومع الأشياء من حوله: 
( وَطَنٌ 
وزنزانَةٌ تبكي حالَها 
لا وَطَنٌ يٌستَغاثَ هُنا 
لا جُرحٌ إِلاّ هُناك 
وليسَ إِلاّكِ أنتِ هُنا ص٣٦).
المكان بذلك هو البعد الظاهر "فرضا" بمعنى المرئي المتاح داخل النص الشعري، حيث ينهض الشاعر -قدر كفاءته - على إعادة خلق الأماكن واستحضارها في ذهن القارئ بأقل الكلمات عكس المسرح الذي هو فن المساحة- أما أدب السجون خاصة فيحيلنا إلى بعض الأماكن دون غيرها التي لها مدلولاتها المميزة: 
( هُنا في مُتَنَفِّسِ الرُّوحِ 
زِنزانَتي 
لا فرقَ بينَ هذا وذاكَ ص٧٧).
لذا فإن الأعمال الشعرية "شعر السجون" بالعموم ثرية بما يْسمى مجازا " المكان / الفكرة" أو " اللفظة/ الفكرة" أو " الحادثة/ الفكرة" بما يعني أن جملة المشاعر المكثفة التي توحي بها تلك الأماكن أو الألفاظ أو الأحداث: (تِلفازٌ 
وَيَصيحُ أحَدُهُم 
مِن عَلى "بُرشِهِ" المُنَعَّمِ 
بِجراحِ من قَضى هاهُنا : 
"ما هذا؟"
تُزعِجَهُ صورَةٌ ويُذهَل 
لا ينزَعجُ من سيلِ الدّماءِ 
جَهلٌ، أو غَباءٌ 
هو من ثَمراتِ مرحَلة الجُبَناء 
سَجينٌ، أو أكثر ص٤١).
نخلص إذا بأهمية المكان بعامة وفي شعر السجون،(للمكان/ التجربة) موقع الصدارة للتعبير عن تلك الميزة وغيرها:(مفتاحٌ ومسلكٌ للهربِ 
للبَقاءِ للمَوتِ والحَياةِ 
بِها نكونُ حيثُ نَشاءُ أن نكونَ 
أو حيثُ يَجِبُ 
لا صَوتَ للٍنّايِ من دونِها 
واللّحنُ يَموتُ 
وَيسقُطُ ألغَسَقُ والشَّفَقُ
وََكُلُّ الأَسماءِ ص٦٧).
الزنزانة كلفظة لغوية من أكثر المفردات شيوعا في أدب السجون "فهو ذاك الذي يطوي بين جدرانه الأسير سواء للحياة التقليدية اليومية أو هو ذلك المكان المخصص للتأهب رداً لهجوم متوقع من عدو قادم أو استعداداً للبدء في هجوم على ذلك العدو:( هُناكَ حولَ عامودِ النَّارِ 
في ساحَةِ الإعدامِ 
كَثيرٌ منَ الحُرِّيَّةِ وَالَحياةِ 
كَثيفٌ هوَ رَاث البارودُ 
دَمٌ هُنا وهُناكَ ص٨١).
إن التعبير عن الماضي وتجاوز الحاضر باستخدام أسلوب الحلم والتذكر سواء للأشخاص أو الأحداث واستشراف واستحضار النقيض لأبراز "وجهة نظر" الشاعر:( مَطَرٌ، قَطَراتُ ماءٍ 
أزيرُ ثَورةٍ 
وفكروٌ لا تموتُ ص٧٤). 
يقول "ارنست همنجواي" في روايته: 
ما هذه العصا؟ إنها عصا شاب مات، قتل في موقعه سوم٠ أرسلوا أمتعته إلى  ذويه ومن بينها هذه العصا الصغيرة فيبعث بها إلى أمه ص٣٧ وفي موضع آخر "قبلتها بحرارة وضممتها إلى صدري ص٥١" ٠ هذا المقطع الروائي يتطابق مع الحس الفلسطيني في سجون الإحتلال الإسرائيلي، وإن كان هناك فارق أليم، أن الأول مات وأُعلن عن موته، أما الثاني مات حيّاً ولا يُعلن عن موته لا لشيء إلا لكونه طالب بحرية وطنه، وعقابه على هذا "الجرم" السجن ذلك الحيز الضيق المسمى المعتقل يشي للوهلة الأولى بالخوف إلا إنه بكل ما سبق من مونولوج وديالوج وحلم واستخدام التذكر وغيره يحيلنا إلى ديناميكية حقيقية تنزع فوراً صفة الملل عن ذلك اللون من الأدب. 
لذا من أهم القضايا التي يناقشها الشاعر كناعنة داخل المعتقل هي قضايا الحياة والموت (الرغبة في الحياة، الجنس، العلاقات الاسرية، الموت بمدلوته المختلفة، الحرية، الخيانة، الحب٠٠٠) :(أرتَشِفُ من شِريانها اللُمتَحِمِ بشِرياني 
كَالأَندادِ 
بِضعَ أقداحٍ 
تَشفي سَقَمَ الأكبادِ ص١١٩).

محمد كناعنة في"ماء زَهْر" يدعو الموتُ متى يشاء، هو لا ولن يستأذن، لذا الحياة أجملُ وأبقى، لكن في فلسطين المحررّة، حيث للحياة مذاق الحرية٠