علاقة المكان بالشخصية في رواية حارسة للكاتب عبد الهادي المدادحة
من إصدارات الآن ناشرون وموزعون
قراءة بديعة النعيمي
يمتد العمل عبر 176 صفحة موزعة على ستة وعشرين خيطا تولى كل منها سرد الأحداث بنفسه دون تدخل الكاتب بها لنصل في النهاية إلى حبكة متقنة.
تدور أحداث رواية حارسة في الفترة الممتدة بين الخمسينات وحتى نهاية الثمانينات من القرن الماضي وهي فترة لها دلالاتها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال الشخصيات التي صنعها الكاتب لتضفي كل واحدة منها أيديولوجيتها الخاصة بها على الرواية. فاجتمع الخليط الفكري لكل شخصية ليحرك الأحداث داخل العمل وقد عمد الكاتب منذ البداية إلى توطيد العلاقة بين شخصيات عمله والمكان/حارسة حيث نجد ذلك في الإهداء ص5 ( إلى أبناء حارسة..الذين يشبهونها وتشبههم، كأنها قُدت من ضلوعها ،وكأنهم قُدوا من حجارتها).
كما نجد ذلك في العتبة الأولى للرواية وهو العنوان الموسوم ب حارسة حيث يحاول المدادحة إثارة شغف المتلقي حول دلالته فهل حارسة مدينة أم امرأة؟
ومنذ الصفحات الأولى يتكشف للمتلقي بأن حارسة ما هي إلا وجهان لعملة واحدة المكان/حارسة_الكرك ،،المرأة/حارسة بنت البرجاس. ففي ص9 وعلى لسان حارسة المرأة ( ما قادني لأن أكون ناجحة شيئان..شغفي بالفن وحبي لحارسة مدينتي الحبيبة..حارسة الاسم الذي أتعبني في صغري وكنت أخجل منه ...حاول ابي أن يشرح لي معناه ،قال: أنه يعني التل يعلوه بناء).
ومن هنا نلاحظ العلاقة القوية التي وطّدها الكاتب بين الشخصية والمكان الذي اختاره وهو الكرك. أما اسم حارسة الذي تَقَصَّد المدادحة إطلاقه على الرواية بدلا من الكرك ليؤكد على قدمها وعراقتها فقد ظهر لأول مرة في العهد القديم حيث كانت تعرف باسم قير مؤاب أو قير حارسة.
والمكان تاريخيا أقدم من الإنسان لكن الإنسان بوجوده وكينونته في المكان يعيد تشكيله وتحويله إلى أشكال مختلفة حسب احتياجاته الحياتية ووفق ثقافته ووجود الإنسان في المكان أدى إلى تعضيد العلاقة بينهما.
ويعمد الروائي إلى إسقاط مجموعة من الصفات الطبوغرافية على المكان الروائي بغية البرهنة على العلاقة بين المكان والشخصية في النص ويتضح ذلك ص14 على لسان شريفة زوجة البرجاس ( البرجاس يجلس هنا في هذا المقعد الذي تقع عليه المدينة وقلعتها، والذي يبدو في أحد أطرافه مثل منقار نسر، ويتسع في الطرف الآخر حتى يصبح كأنه كتاب مفتوح. هكذا وجه البرجاس يشبه وجه حارسة المدينة يدق عند الذقن...) وهكذا فاختلاف هذه الصفات وتنوعها من مكان لآخر في المكان الروائي تعكس الفروق الاجتماعية والنفسية والأيديولوجية لدى شخصيات الرواية، كما أن الدلالات النابعة من هذه الفروق يمكن أن تكون تعبيرا عن رؤية الشخوص للعالم وموقفه منه. وقد تكشف عن الوضع النفسي للشخوص وحياتهم اللاشعورية بحيث يصبح المكان بعد نفسي يسبر أغوار النفس البشرية.
كما ويعتبر اختيار المكان جزء من بناء الشخصية والذات البشرية التي تصبغ ما حولها بصبغتها وتسقط على المكان قيمته التاريخية أي أن البشر الفاعلين صانعي الأحداث هم الذين أقاموه وحددوا سماته ففي ص11 على لسان حارسة( لم أكن أعرف أنني سأعيد رسم لوحتي لأضيف إليها وجوها جديدة من أبناء حارسة الذين تركوا في تاريخها علامات مميزة بما فيهم وجه ذلك الضابط) ويتضح لنا من كلمات حارسة تأثير أبناء مدينة حارسة في إضافة كل ما هو مميز لها..
وفي الوقت نفسه فإن للمكان قدرة على صياغة الشخصيات والأحداث الروائية ففي ص17 على لسان البرجاس حينما يخبره ناصر أحد أبناءه الأربعة وكان رئيسا للبلدية بأنه ينوي تطوير الحي الشرقي ووسط المدينة وإزالة مقام الولي العجمي ( نحن نعيش بتلك الذاكرة،ولم نبق على ترابها إلا بتلك الذاكرة. الولي العجمي وحد أهل المدينة ولم يفرقهم) يتضح لنا من كلام البرجاس مدى تأثير المكان عليه وارتباطه به بل واعتباره ذاكرة المدينة.
والمكان في الرواية عنصر متعدد الوظائف فهو عند فلوبير بمثابة مرآة تعكس الصدى السيكولوجي للشخصية، ويتضح ذلك ص32 على لسان المحقق حابس وهو يعتلي درجات مبنى البلدية ( إنها مميزة بين كل البنايات التي تحيط بها ،ما زالت هيبة السلطة وجلالها. يقال بأن المباني تعكس صورة ساكنيها وشخصيته وروحه. لا يشبه هذا المبنى إلا مبنى السراي الذي أعمل به والذي كلما دخلته أشعر بالثقة أكثر).
وإذا كان المكان يتخذ دلالته التاريخية والسياسية والاجتماعية من خلال الانفعال وتشابك العلاقات فإنه يتخذ قيمته الكبرى من خلال علاقته بالشخصية، وهذا ما نلحظه ص43 عن حارسة الرسامة على لسان أمها شريفة( ولم تُخيب حارسة أمل أبيها...بذلت كل جهدها حتى تكون فنانة متميزة ،وقد اهتمت أن تعكس أعمالها بيئتها وبلدها .....وكانت حريصة على أن توصل للجمهور الإيطالي رسالة إيجابية عن ثقافة العرب...وعن حارسة بشكل خاص..)
والمكان كما يقال قطعة شعورية وحسية من ذات الشخصية نفسها. ففي ص151 عن كاثرين زوجة دمتري عندما قدما إلى حارسة من إسطنبول( النساء هن الأقدر على تلمس روح المكان..سرعان ما استدلت على مقام الولي العجمي..)
وفي رواية حارسة ارتبطت الشخصيات ارتباطا وثيقا بالمكان ففيه استخدموا قوتهم وقاموا بشتى المظاهرات ومنها المظاهرات التي قامت لتساند أهل الجنوب في هبتهم ضد الحكومة ففي ص19 على لسان الطبيب أسامة أحد أبناء البرجاس ( ولعت في الجنوب..) فيرد الأب (لن نترك أهل الجنوب وحدهم).
كما تظاهروا ضد حلف بغداد في الخمسينات والمظاهرات المطالبة بتحرير فلسطين وتلك المناهضة لمشاريع التسوية وغيرها من المظاهرات التي تعكس وعي أبناء المدينة حارسة.
كما أضحى المكان في حارسة الجسد الذي يحتوي الشخصيات ويضفي عليها الحركة والحيوية. فعلى لسان شريفة ص73( وقفت المظاهرة أسفل بيتنا، واتجهت الوجوه كلها نحو النوافذ التي تطل منها وجوه النسوة والصبايا الملوحة بالشمس ،فزادت الشباب حماسة..)
وأخيرا نستطيع القول بأن المكان والشخصية شكلا معا محورا أساسيا دارت حوله عناصر رواية حارسة والتي سعى المدادحة لوسمها بالأصالة عن طريق التأكيد عليهما من خلال اللوحة التي تمكنت الرسامة حارسة بإسقاط وجوه أبناء حارسة على لوحة احتلت خلفيتها القلعة التي تعتبر أهم قلاع الأردن والتي يعود تاريخ إنشائها إلى عصر المؤابيين نحو 860 قبل الميلاد.