(بيان صادر عن جمعية الثقافة العربية الإسلامية) .. التبرك بآثار النَّبيِّ ﷺ سنة نبويَّة ... لا عادة وَثنية
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على النَّبيِّ العربي الهاشمي
الأمين سيدنا محمد
وعلى ءاله وأصحابه الطيبين الطاهرين
وبعد،،،
لقد أرسل الله تعالى الأنبياء مبشرين ومنذرين، ومرشدين للناس لكل ما فيه خيرهم وصلاحهم وفلاحهم ونجاحهم في الدنيا والآخرة، وقد منَّ الله علينا بأن جعلنا من أمة خير المرسلين، وحبيب رب العالمين سيدنا محمد ﷺ، هذا النبيّ الرؤوف الرحيم، ذي الفضل العميم على أمته في حياته وبعد وفاته وفي يوم القيامة، فهنيئًا لمن اتبع سنته واقتدى به قولًا وفعلًا وحالًا وخُلُقًا.
وإن من مظاهر تعظيم الله تعالى لأنبيائه واصطفائهم، أنه شرَّف أجسادهم وأبدانهم الطيبةَ الطاهرةَ، وخصَّها ببركة عظيمة، وجعلها سببًا في زيادة الخير واليُمن وغزارة النعمة والعطية، وليس هذا بغريب ولا ببعيد، فإن كان الله تعالى قد جعل في الكعبة الشريفة بركة حيث قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96)} (سورة ءال عمران) وجعل في المطر بركة حيث قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا (9)} (سورة ق) وجعل الزيتون مباركًا حيث قال تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ (35)} (سورة النور) وجعل ليلة القدر مباركة حيث قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ (3)} (سورة الدخان) فكيف لا تكون أعظم البركات في أنبياء الله ورسله، وهم أعظم خلق الله تعالى، قال تعالى حكاية عن سيدنا عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ (31) } (سورة مريم) فلا شك ولا ريب في بركة أعظم الرسل وأشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد ﷺ.
وإن مما ثبت عند علماء أهل السنة والجماعة أجمعين، من فقهاء ومحدثين وحفاظ وأصوليين، سنيةَ ومشروعيةَ واستحبابَ التماس البركة من آثار رسول الله ﷺ، سواء كان ذلك مما انفصل عن جسده الشريف كشعره وعرقه وأظفاره المباركة، أو مما مس جسده الشريف من آنية وثياب ونحو ذلك، وحصر وتعداد الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك مما يضيق عنه الوسع وتعجزعنه الطاقة، لكثرة الأدلة والنقولات في ذلك من أحاديث رسول الله ﷺ ومن سيرة صحابته الكرام وآثار أهل السلف الصالح، ومما صرح به وأقره علماء مذاهب أهل السنة والجماعة الأربعة (الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة) منذ قرون خلت وإلى عصرنا هذا.
وفي هذا المقام نذكر بعضًا من هذه الأدلة الشرعية الواضحة الصريحة التي يجد فيها المنصف العاقل بغيته:
• رَوى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ في صَحيحَيْهِما أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا حَلَقَ شَعَرَهُ في حَجَّةِ الوَدَاعِ أَمَرَ أبا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ بِتَقْسيمِ شعرِهِ بينَ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْحَافِظُ النَّوَويُّ في شَرْحِ مُسْلِمٍ: مِنْ فَوَائِدِ الْحَديثِ التَّبَرُّكُ بِشَعَرِهِ ﷺ وجَوَازُ اقْتِنَائِهِ للتَّبَرَّكِ اهـ. وَقَالَ مِثْلَهُ الْحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ في فَتْحِ الْبَارِي. وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّوْزِيعَ للشَّعَرِ لِلتَّبَرُّكِ بِالشَّعَرِ إِذِ الشَّعَرُ لا يُؤكَلُ، قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: إِنَّما قَسَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ في أَصْحَابِهِ لِيَكُونَ بَرَكَةً بَاقِيَةً لَهُمْ وَتَذْكِرَةً لَهُمْ. اهـ
• قال العيني في شرح صحيح البخاري ما نصه: وقد ذكر غير واحد أن خالد بن الوليد، رضي الله تعالى عنه، كان في قلنسوته شعرات من شعره ﷺ، فلذلك كان لا يقدم على وجه إلَّا فتح له، ويؤيد ذلك ما ذكره الملا في (السيرة): أن خالدا سأل أبا طلحة حين فرق شعره ﷺ بين الناس أن يعطيه شعر ناصيته، فأعطاه إياه، فكان مقدم ناصيته مناسبا لفتح كل ما أقدم عليه.اهـ
• قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي ﷺ فيضعها على فيه يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به.
• قال الحافظ النووي رحمه الله تعالى في شرحه لصحيح مسلم عن بعض الأحاديث التي فيها أن الصحابة كانوا يتبركون بما لامسه النبي ﷺ بعد موته ما نصه: (هَذَا فِيهِ التَّبَرُّكُ بِآثَارِ النَّبِيِّ ﷺ وما مسه أو لبسه أو كان مِنْهُ فِيهِ سَبَبٌ وَهَذَا نَحْوُ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَأَطْبَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَيْهِ مِنَ التَّبَرُّكِ بِالصَّلَاةِ فِي مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الرَّوْضَةِ الْكَرِيمَةِ وَدُخُولِ الْغَارِ الَّذِي دَخَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ هَذَا إِعْطَاؤُهُ ﷺ أَبَا طَلْحَةَ شَعْرَهُ لِيَقْسِمَهُ بَيْنَ النَّاسِ وَإِعْطَاؤُهُ ﷺ حِقْوَةً لِتُكَفَّنَ فِيهِ بِنْتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَعَلَهُ الْجَرِيدَتَيْنِ عَلَى الْقَبْرَيْنِ وَجَمَعَتْ بِنْتُ مِلْحَانِ عَرَقَهُ ﷺ وَتَمَسَّحُوا بِوُضُوئِهِ ﷺ وَدَلَّكُوا وُجُوهَهُمْ بِنُخَامَتِهِ ﷺ وَأَشْبَاهُ هَذِهِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فى الصحيح وكل ذلك واضح لاشك فِيهِ.اهـ
• وَفِي صَّحِيحِ مسلم عَنْ أَسْمَاءَ بِنْت أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أنَّهَا أَخْرَجَتْ جُبَّة طَيَالِسَةٍ (وهو من لباس مدوّر أسود، وسداها صوف، قيل: جبة صوف سوداء) وَقَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّه ﷺ يَلْبَسُها فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضى يُسْتَشفَى بِهَا.
• وفي صحيح البخاري أن الصحابة كانوا يتسابقون على وَضوء النبي ﷺ والذي يدرك شيئا من الماء يتمسح به ومن لا يدرك يمسح يد صاحبه ممن تبرك بماء وضوء النبي ﷺ وإذا كانوا بعيدي الموطن عن النبي ﷺ يأخذون من ماء وضوئه معهم إلى ديارهم.
• وروى الحافظ النووي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال: وأوصى أن يدفن معه شيء كان عنده من شعر النبي ﷺ وأظفار من أظفاره وقال: إذا مت فاجعلوه في كفني ففعلوا ذلك.
كان هذا فيضًا من غيض الأدلة الشرعية التي لا شك فيها ولا مرية ولا فرية، فعليه يثبت أن فعل التبرك بآثار النبي ﷺ فعل مسنون علمه رسول الله ﷺ لصحابته، ودرج عليه الصحابة وأورثوه للتابعين وهم لمن تبعهم من أهل العلم والفضل والتقوى والصلاح، وانتشر ذلك بين المسلمين في أصقاع الأرض بسند شرعي أصيل متين، لكن الضعف الكبير في العلم والثقافة الدينية التي تعانيه الأمة الإسلامية اليوم، قد ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه لأعداء الأمة الحاقدين وأصحاب الفتن الجهلة الضالين، ليموهوا على الناس ويدلسوا عليهم، ويلبسوا سنة التبرك بآثار رسول الله ﷺ ثوب البدعة والخرافة، فتجرؤوا دون خجل ولا وجل على وصف المسلمين الذي يتبركون اليوم بآثار النبي ﷺ والمقبلين على هذا المظهر العظيم من مظاهر محبة رسول الله ﷺ والتعلق به بأوصاف الوثنية والشرك والعياذ بالله تعالى، فقلبوا بزعمهم الحق باطلًا والطاعة معصية والمحبة الصادقة والاتباع الحقيقي شركًا ووثنية وابتداعًا ودجلًا، فلا عجب بعد ذلك إن رأينا من يستحل دماء وأعراض المتبركين بآثار رسول الله ﷺ، معتمدين على هذه الأراء والأفكار والفتاوى المتطرفة، بل إن مثل هذه الأفكار التكفيرية الضالة كانت سببًا رئيسًا لما رأيناه في العديد من الدول العربية والإسلامية حولنا، من سفك الدماء وانتهاك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إننا في جمعية الثقافة العربية الإسلامية، هذه الجمعية الإسلامية السنية الوطنية الجامعة، قد تشرفنا منذ أكثر من عقدين من الزمن بالمساهمة في نشر الثقافة الإسلامية الصحيحة، والعلم الشرعي النقي الصافي المستقى من الكتاب والسنة وإجماع مذاهب أهل السنة والجماعة، وإقامة الدليل الشرعي، وتوضيح الحقائق المتعلقة بالكثير من القضايا الدينية، والتي منها قضية التبرك بالآثار النبوية الشريفة، لا سيما في وطننا الطيب المبارك الذي كانت فيه القيادة الهاشمية الحكيمة ذات عناية بالغة بآثار الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، فقد افتتح جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه عام 2012 متحف الآثار النبوية الشريفة، بجانب مسجد الملك الحسين بن طلال في عمان، والذي ضم عددًا من الآثار النبوية الشريفة للرسول ﷺ، ومنها شعرة من لحيته الشريفة عليه الصلاة السلام.
كما وكان لدائرة الإفتاء العام الأردنية دور مشهود في التعريف بسنية التبرك بآثار النبي ﷺ، وإيضاح الدليل الشرعي عليه، فمِن ذلك ما جاء في في الفتوى الصادرة من دائرة الإفتاء، رقم: 2264 بتاريخ 17-7-2012 ونصه: "يجوز التبرك بآثار النبي ﷺ في حياته وبعد وفاته، سواء بالتقبيل أو باللمس أو التمسح ونحوه، وسواء في ذلك ما انفصل من جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، وما استعمله من آنية أو لباس أو أدوات أخرى.
فقد ثبت عن الصحابة الكرام أنهم كانوا يصنعون ذلك بحضرة النبي ﷺ ولا يُنكِر عليهم، وبدنه الشريف عليه الصلاة والسلام كله بركة وخير، ولم نجد في هذا الحكم خلافًا بين العلماء؛ لكثرة الأدلة الشرعية الواردة في الباب".
ولا يخفى اعتناء عديد العواصم الإسلامية بآثاره النبوية الشريفة ﷺ، فنجد متاحف وآثار شريفة في العديد من البلدان، كمصر وفلسطين وتركيا وغيرها من البلدان الإسلامية.
ختامًا نؤكد على أن نشر ثقافة التبرك بآثار النبي ﷺ والتعريف بحقيته ومشروعيته سيبقى جهدًا مباركًا نتشرف في جمعية الثقافة العربية الإسلامية بالمساهمة في أدائه والقيام به في وجه من تجرأ على وصف هذه السنة العظيمة بالوثنية والهندوسية وغيرها من الأوصاف البشعة المستنكرة، ودافعنا في ذلك الانتصار لدين الله ولرسول الله ﷺ وآل بيته وصحابته وعلماء أمته وأوليائهم الذين أقروا التبرك واستحسنوه ورضوه مسلكًا ومنهجًا وطريقا.
والحمد لله رب العالمين