النائب ماجد الرواشدة يكتب : المتقاعدون القدامى وهذا البوح..
جمعتني الاقدار صدفة بأحد من اشتغل في وظيفة حكومية لعدد من السنين، وأحيل للتقاعد بعد خدمة كلها اخلاص لله وللوطن وللمليك، بارا بقسمه لم يحنث ولم يغدر، وغادر الوظيفة العامة مرتاح الضمير، ولكنه يرسم في خياله شكل العمل في ظروف البدايات، ويقول بألم شديد: نحن من سار فوق طرقها قبل ان تعبد، نحن من زرع فيها الأشجار بعد ان كانت ارضا جرداء، نحن عمرناها بجهدنا وادينا عملنا في غرف لم تدخل اليها الكهرباء، ولا التكييف ولا حتى مروحة ولا ثلاجة او مبردة ماء لسبب بسيط، لم تصلها الكهرباء بعد، اضطررنا للسكن في مكان العمل، لا مواصلات كاليوم ولا قدرة على شراء سيارة، وتقبلنا الأهالي بكل رحابة صدر كأبناء واخوة لهم، شاركناهم شظف العيش وقلة الموارد، فلم نعرف من الحياة ترفها ولا تنوع طعامها، وصبرنا على طعام واحد ولباس بسيط، فالراتب قليل والحياة ليست سهلة، نحن من دخل المدارس ولم يكن بها ملعب للأطفال ومهدناها بأيدينا وبأدوات بسيطة حتى يتمكن الطلاب من الاصطفاف وأداء تحية العلم والنشيد اليومي وزرعنا في قلوبهم حب الوطن بطقوس يومية، وما ان حان يوم الوداع ومغادرة الأمكنة التي تركنا في كل زاوية منها اثرا طيبا، فمن مقعد مكسور اصلحناه، ومن لوح باهت اعدنا صباغته باللون الأخضر، ومن جدران طليت باللون الأبيض الى أبواب ونوافذ اصلحت واعيد صباغها، وطبشورة صغيرة حملت كل لون من ألوان المعرفة، وقدمنا للوطن أبناء التقيناهم اما جنودا يحرسون الوطن او أطباء يعالجون المرض او مهندسين يشيدون في ارجاء الوطن شواهق البناء، او رجالا في رحاب العدالة قضاة ومحامين وغيرهم.
غادرنا العمل ونحن نردد قول الشاعر:
خلقت الوفا لو رجعت الى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
غادرنا العمل العام ونحن أعوز ما نكون للدخل المتزايد، وإذ به يتناقص في ظل حاجة الأبناء لإكمال دراستهم، علمنا أبناء الوطن واحترنا ووصلنا حد العجز عن تعليم ابنائنا بسبب ضيق ذات اليد وعجز الراتب، وقدرنا ان الظروف المالية للدولة لا تسمح بالزيادة، ولكن وبعد فترة، لاحظنا ان من تقاعدوا بعدنا كانوا أكثر حظوة من حيث النسب والترفيع للدرجة اللاحقة والراتب التقاعدي الأعلى، فمن درسناهم سبقونا في المزايا، وهذا يحز في النفس ويبعث على الحزن، فلسنا نادمين عل ما قدمنا في ظل ظروف صعبة، ولكننا كنا نتوقع ان تلتفت الينا الحكومات بعين العدل وتعديل اوضاعنا بما يماثل القرناء من تتقاعدوا على نفس الدرجات لا اكثر. ونأمل ان نمضي ما تبقى من عمر لمن بقي منهم على قيد الحياة، ان يعيشه بكرامة وان نتحاشى العوز والاعتماد على المعونات المذلة او الاقتراض غير الميسر، حتى جهات الإقراض تشترط للمقترض عمرا محددا، وان لا نشعر بالغربة في وطن بايعناه على الوفاء والإخلاص، فلم يعد الراتب يفي بأبسط متطلبات حياتهم.