”النموذج المغربي” المتفرد ..!!!
تتواصل ملحمة أسود الأطلس في كأس العالم لكرة القدم بقطر، ومعها تستمر موجة الفرح غير المسبوقة مغربيا وعربيا، ومن ورائهما قارة أفريقيا والعالم الإسلامي. انتصارات عكست وحدة "الوجدان” لشعوب هذه الجغرافيا من المحيط إلى الخليج، بل من جاكرتا إلى الرباط، وجاليات هذه الشعوب في دول المهجر الأوروبية والأمريكية، عربا وأمازيغ وأكراد، سنة وشيعة وإباضيين، متدينين وعلمانيين، رجالا ونساء، شيبا وأطفالا، وغير هذه التصنيفات التي اجتهدت أطراف كثيرة في تحويلها إلى أسوار وحواجز، وأقنعوا الكثيرين بضرورة التمترس خلفها خوفا من الآخر، وإذا بمباراة كرة قدم تكشف لنا مدى هشاشتها وزيف الدعاوى التي تقف خلفها!!
ولأن ملحمة الأسود مليئة بالأرقام القياسية والإحصائيات غير المسبوقة، تعددت الرؤى والمقاربات في محاولة فهم وتحليل ظاهرة الحماس والفرح الحقيقي التي بدأت في المغرب، وانتقلت إلى محيطها العربي والأفريقي تاليا، لتنتشر في معظم أنحاء العالم بعد ذلك وتسابق الجميع في الإشادة بها بمختلف لغات الأرض، من مختلف المشارب والتخصصات.
لقد عكس الحدث الذي قاده المدرب وليد الركراكي، وترجمه جنوده الأبطال في الميدان، ما يمكن تسميته "الروح المغربية” التي تستوطن هذا الجسد منذ قرون، وكرس ما يمكن تسميته "النموذج المغربي” المتفرد، الذي تغذيه هذه الروح!
نموذج للنجاح، يجيب على كثير من أسئلة النهضة التي ما فتئ العرب والمسلمون وأبناء الدول الفقيرة والنامية يطرحونها من عقود، إن لم يكن قرون، وبشكل أكثر إلحاحا، في أعقاب نيل هذه الدول استقلالها "لصوري” أو "الضعيف” عن مستعمرها الغربي. ولأن نخبنا لا تؤمن إلا بالوصفات والنماذج؛ وتكفلت أنظمة ما بعد الاستقلال، كل حسب تجربته، في قمع أي توجه لاختراع "نموذج ذاتي” لا يستنسخ نماذج النهضة والنجاح الغربية، يمكن أن نكتفي بذكر خمسة جوانب تصلح لتكون عمادا لهذا "للنموذج المغربي المتفرد”، الذي أهل هذا الشعب للنجاح في ملاعب قطر، ويتم حاليا استلهامه في مختلف الميادين العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، الخ!
أول وأهم مرتكزات هذا النموذج هو الإيمان بالقدرة على الفعل والإنجاز، والثقة العالية بالنفس، ومحاربة ثقافة "استصغار” الذات. لقد عانينا طيلة عقود الاستقلال من النخب التي يمكن تسميتها "وكلاء الاستعمار” المحليين، والذين كرسوا لدينا مقولة ”ننا مهزومون” ولا سبيل أمامنا لتغيير هذا الواقع المزري إلا اتباع خطوات "مستعمرنا” الناجح، واستنساخ -لا مجرد استلهام- تجاربه وقيمه وغيرها من عناصر تجربته التاريخية، تحت دعوى "التحديث”، وانخرطت في هذا المسعى النخب السياسية والاقتصادية والفكرية والفنية والدينية وغيرها، مما ولد ردة فعل معاكسة لا تقل تدميرا قوامها الدفاع عن "الأصالة”، وفي عمقها الدعوة لاستنساخ مقابل -لا مجرد استلهام- لعصر "الصحابة والخلافة”؛ مما قاد في النهاية إلى تكريس "هزيمتنا الداخلية” لأننا لم نستطع محاكاة المجتمع الغربي ولا مجتمع الصحابة، واكتفينا بالتمسح بقشور النموذجين التافهة! لقد آمن جنود وليد الركراكي بقدرتهم على الفعل، وبأنهم لا يقلون بأي حال عن نظرائهم "المتقدمين”، وتجاوزوا -ربما للمرة الأولى عربيا وإسلاميا وأفريقيا- حالة الهزيمة الداخلية، فحققوا ما حققوا من نجاحات.
المرتكز الثاني الذى يستتبع الأول ولا ينفصل عنه، هو الاستعداد الجيد. فدخول أي معركة أو تجربة أو تحد دون الاستعداد الجيد لها هو وصفة مثالية للفشل، وبالتالي تكريس الهزيمة الداخلية واستصغار الذات أمام الفائز. ولعل من أهم أسس هذا الاستعداد الجيد هو القدرة على تجنيد القوى اللازمة للنجاح، وهو ما تميز الركراكي -كمثال- فيه، عبر المزاوجة بين مغاربة الوطن والمهجر، اللاعبين المحليين والمحترفين، بناء على معيار واحد هو الكفاءة والقدرة على العطاء. لقد جرت العادة على اعتبار كفاءاتنا في المهجر هي عماد النهضة بحجة أنهم الأكثر تمثلا للنموذج الغربي الناجح، في مقابل تعصب البعض الآخر لأبناء البلد الأكثر غيرة وقتالا من أجله، حتى أنهى أسود الأطلس هذه الحاجة إلى المفاضلة أصلا، واكتشفنا معدن المغربي الأصيل أيا كانت بلد إقامته، طالما هو مستعد لنكران ذاته وخدمة الجماعة. إن دخول أي معركة "بقوات” من لون أو فصيل واحد، مهما بلغ شأنهم من الاحتراف أو الوطنية أو الصلاح، يضمن نتيجة واحدة في المحصلة: الفشل!
المرتكز الثالث المرتبط بدوره بسابقيه يقول بضرورة معرفة نقاط قوتنا وضعفنا، واستخدام هذه المعرفة في بناء خطة تناسب هذه القدرات. وهو مبدأ معروف للاستراتيجيين في العالم أجمع، ويترتب عليه أن تحدد مكان وزمان وسلاح المعركة الذي يقربك من النصر، لأن بديل ذلك هو السماح لخصمك بتحديد العناصر السابقة، وبالتالي تدخل معه في معركة هو من حدد زمانها وميدان وقوعها والسلاح المستخدم فيها، وهو ما يمكن وصفة بـ”الانتحار”. لقد عبر الركراكي عن ذلك بذكاء عندما صرح بأنه وضع الخطة المناسبة لقدرات فريقه، وعلى الآخرين الانهماك في فك شفرة رموزها!. ولو وسعنا تحليل هذه النقطة أكثر، وحاولنا صياغتها بطريقة أكثر شمولا نقول: علينا صياغة النموذج النهضوي الخاص بنا، الذي يراعي احتياجاتنا الحقيقية -لا احتياجات نخبنا المعزولة- ويناسب قدراتنا، وأن ننفذه بالطريقة التي تناسب أسلوبنا "في اللعب”، وهو ما لا يتنافى -بل ويحتم- مع الاستفادة من الخبرات والمعارف الإنسانية المختلفة، استلهاما لا استنساخا!
المرتكز الرابع الملازم لسابقه، هو وضع معيار "الإنجاز” مرجعا لقياس النجاح، وعدم الانحراف عنه إلى مقاييس سطحية واستعراضية أخرى لا تصب في الهدف النهائي: الفوز! مبدأ واضح في كرة القدم ويمكن تطبيقه في غيرها من الميادين. فمهارة البرازيل ولعبها الاستعراضي لم تجلب لها الانتصار منذ 2002، كما أن "صرامة” الإيطاليين لم تحرمهم من فرصة الفوز عام 2006 والوصول إلى نهائيات كثيرة غيرها. لقد أحسن محلل رياضي مصري في التعبير عن ذلك عندما قال: لقد أنهى أسود الأطلس في هذه البطولة "خرافة” التمثيل المشرف! وهي خرافة شهدت تواطؤا مريبا بين النخب المحلية والمستعمرين السابقين، ساهم في تكريسها وتعميق إحساس الهزيمة الداخلية الذي يسكننا، فأصبح مجرد الوصول إلى كأس العالم رهانا أكبر، والنجاح في التأهل للدور الثاني منه أقصى ما يمكن أن نطمح إليه من إنجاز!! ولأن مدربي معظم منتخبات العالم الثالث هم أجانب ينتمون إلى "الدول الكروية العظمى”، نظر الجميع إلى الإنجاز المغربي، وبمدرب وطني، على أنه "حلم يقظة” أو معجزة لم يكن ممكنا تصورها. النجاح هو النجاح، أما التقدم الذي لا ينتهي على درب النجاح فهو عزاء مثير للشفقة، يسهم في "تأبيد” انتظار لحظة الانتصار دون الوصول إليه!
ونأتي إلى خامس هذه المرتكزات، والذي لا يقل -إن لم يفق- ما سبقه أهمية، ويتعلق بالقدرة على إشراك الناس في "الإنجاز”. وهنا، لا يظنن أحد أن مشاركة الجماهير المغربية والعربية في إنجاز أسود المغرب من مقاعد المتفرجين تجعلهم عنصرا هامشيا، فبدون هدير حناجرهم بكلمات "سير.. سير.. سير” كان يمكن للوهن والعياء أن يدب في أوصال جنودهم، وللإحباط أن يتسرب إليهم. إن إيمان الناس، كل في موقعه، بأهمية الانتصار والإنجاز، وتجهيز أبنائهم، أجيال المستقبل، لتمثل هذه الثقافة -بدل ثقافة الانكسار والهزيمة السائدة- يضمن لانتصاراتنا أن تتواصل، ولمشعل النهضة والإنجاز أن ينتقل من جيل إلى آخر، وهو الضمان الوحيد لرقي أوطاننا وانخراطها الإيجابي في الحضارة الإنسانية.
أخيرا، لا يظن أحد أن المعسكر المضاد للنجاح والنهضة، والمكون من حلف "موضوعي” بين "الأصوليين” و”الحداثيين” سيضع السلاح دون أن يحارب موجة الفخر والفرح والثقة التي سرت في أوصال العالمين العربي والإسلامي ودول القارات الفقيرة، في أفريقيا وآسيا، وأمريكا اللاتينية. وقياسا على تجاربنا السابقة بين "عرابي” الهزيمة الداخلية، نعرف مسبقا الأسلوب الذي سيلجأ إليه كل من طرفيه. فالحداثيون سيجتهدون في التأكيد على أن تجربة أسود الأطلس هي مجرد "فلتة” أتت في غفلة من الزمن، وأنها غير قابلة للتكرار، وسيحاولون إحباط أي رغبة من أي طرف لمحاولة تكرار ما حدث في قطر، وأن "المنطق” العلمي والتاريخي والسياسي يقول بتأبيد معسكري التحضر والتخلف، لدرجة يرقى معها هذا التصنيف إلى مرتبة القانون العلمي على غرار "الانتخاب الطبيعي”! أما الأصوليون فسلاحهم المعتاد هو "التبخيس والتسخيف” من أي انتصار تنجح مجتمعاتنا في إنجازه، والتأكيد على أنه مجرد فوز في لعبة سخيفة تسمى كرة القدم، ولا معنى للبهجة والفرح والمبالغة في التفاؤل، مع لجوء البعض لتذكيرنا "بحرمة” كرة القدم لأنه لهو، وأن لا فوز إلا فوز الآخرة، أو ما يراه "ولاة أمورنا” كذلك!!
خلاصة القول، وإن بدا في كلامي بعض المبالغة -او كثير منها-: إذا أحسنا قراءة ما حدث في قطر بأقدام أسود الأطلس وحناجر المغاربة والعرب، فسيكون هذا "الإنجاز المغربي” حدثا مؤسسا لزمن رائع سيأتي، عنوانه "الإيمان بقدرتنا على الفعل.. أي فعل”!!
مشاهد 24