النزعة الإنسانية حبال متينة تشد أركان العمل الفدائي في رواية سافوي للكاتب مهند طلال الأخرس.
إصدارات دار اليازوري العلمية/عمان/2022
قراءة بديعة النعيمي
النزعة الإنسانية هي تلك المنتزعة من التجربة الإنسانية من أجل إقامة علاقات تقوم على العدل والتآلف وقيل أيضا في تعريفها بأنها الفلسفة التي تؤكد قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق ذاته بالاعتماد على الفعل. وأهم ما يميز النزعة الإنسانية سمو القيمة الروحية والنفسية على القيمة البيولوجية وتسعى دائما إلى إعلاء الفكر الإنساني والذي يُعدّ جزءا من تلك النزعة.
وقد عملت رواية سافوي على استكناه وحدة الجوهر الإنساني الثابتة عبر التاريخ من أجل التقاط الإنساني والأصيل في أعماق النفس البشرية من خلال علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم النفس.ويبدو بأن مهند الأخرس كأنه عاش التجربة وعمّر نفسه بأحداثها فامتلأت مشاعره واندفعت للتعبير عن أحاسيسه ورؤاه بصورة صادقة. وقد استطاع ترتيب خيوط الحقيقي مع المتخيل ليضع عملية سافوي تكون نواتها التجربة الإنسانية.
وقد جاء عنوان الرواية الموسوم ب سافوي دلالة على عملية قامت بها مجموعة فدائية بتاريخ 6/آذار/1975 مكانها العمق ( الإسرائيلي) / تل الربيع في فندق سافوي الذي يحمل رمزية بالنسبة للقائد المسؤول عن العملية أبو جهاد كما ذكر مهند الأخرس ص143 من الرواية وهي أن الفندق كان خلال فترة الانتداب مقرا للزعيم الإرهابي والمجرم مناحم بيغن مرتكب عدة مجازر في حق الشعب الفلسطيني أشهرها مجزرة دير ياسين. ومن هنا نرى بأن رواية سافوي عالجت هذه العملية بكل تفاصيلها بدقة لكن هناك حبال قد تخفى على المتلقي وهي النزعة الإنسانية التي ساهمت بقدر كبير في شد أركان هذه العملية فتداخل العمل الفدائي وأهدافه النبيلة مع تلك الحبال في خلطة طفى فيها العمل الفدائي على السطح بحيث كان سهل الالتقاط ولكن بقيت تلك النزعة التي يتطلب وجودها من الروائي لتكتمل الرواية مغمورة في الأسفل تنتظر من المتلقي أن يخرجها ليدرك حنكة الكاتب بهذا التلاعب المقصود الذي يسجل له ،ذلك لأن الكاتب ليس ملزما بأن يجهز وجبته في الملعقة للمتلقي بل يجب على المتلقي أن يبحث ويستشكف ما أخفاه الكاتب من إبداع أسفل الظاهر من الفكرة.
وأبطال سافوي هم أبطال حقيقيون حملوا مشاعل الحرية على رؤوس بنادقهم وقنابلهم الموقوتة ،خاضوا البحر وتجاهلوا غدره ،قطعوا ظهره بمشاعرهم وإنسانيتهم لا بهدف القتل بل بهدف الحصول على رهائن من الآخر ومبادلتهم بأخوة لهم وأخوات في معتقلات خلت من الإنسانية.
وصلوا فلسطينهم والتي طالما تخيلوها أمامهم كعروس أسطورية يسعى إليها الجميع ،يذيلوا رسالة عشقهم لها بدمائهم وهي بدورها تحجز لهم مكانا في السماء.
إذن لقد أوصل مهند الأخرس رسالة مزدوجة إلى المتلقي بأن الهدف الأساسي من عملية سافوي هو الحصول على رهائن والتفاوض مع العدو لإتمام عملية المبادلة برهائن فلسطينيين في سجون الاحتلال بحضور الصليب الأحمر والسفير الفرنسي والفاتيكان وهذا الشق الأول من أهداف الرسالة وهو الشق الفدائي. أما الشق الثاني فهو عدم التعرض للرهائن بالقتل أو امتهان إنسانيتهم بأي شكل من الأشكال لأن الفدائيين ليسوا بإرهابيين ولا قتلة ويتمثل لنا هذا ص140 بما جاء على لسان أبو جهاد للفدائيين قبل العملية ( يا خضر ،تلك الرسالة عندما يحتجز الرهائن وتبدأ عملية التفاوض ..اطلبوا مندوب الصليب الأحمر وسفيري فرنسا والفاتيكان...) هذا هو الشق الفدائي.
أما الشق الإنساني فجاء في نفس الصفحة على لسان أبو جهاد أيضا ( نحن لا نقاتل لأجل الدم أو العبث، نحن مناضلون من أجل الحرية). وهنا يكمن الشق الإنساني.
جميعنا يعلم بأن كرامة الأسير في سجون الاحتلال منتهكة ومعاملتهم له لا إنسانية. لذلك كثيرا ما كان هدف العمليات الفدائية سابقا سواء في الداخل أو في الخارج هو مبادلة الرهائن وقد تطرق مهند الأخرس إلى إحدى هذه العمليات بقيادة محمد مصالحة وهي عملية ميونخ عام 1972 ص20( فمصالحة هذا كان قائد مجموعة الكوماندوز الثمانية في عملية ميونخ).
ومن الأمور التي تلفت النظر في رواية سافوي من حضور النزعة الإنسانية استحضار الكاتب لنماذج قديمة عبر ما يسمى توظيفا أو تناصا كاستحضاره لشخصيات كان لها أثرا كبيرا في قضية فلسطين مثل شخصية باجس أبو عطوان الشهيرة تلك الشخصية التي شكلت رعبا للاحتلال ومنه ما جاء ص62 ( ذاك الباجس المتجدد دوما فينا ذلك الباجس الذي شكل رعبا للاحتلال وهاجسا يقض مضاجعه بالليل والنهار ذلك الباجس).
ومن الأمور التي تلفت انتباه المتلقي إلى حضور النزعة الإنسانية في الرواية السعي إلى ترسيخ القيم التي تصب في خدمة الإنسان مثل نبذ الظلم والسعي إلى لفت العالم لقضية فلسطين ففي ص139 ما جاء على لسان أبو جهاد ( يجب مخاطبة العالم ودق الأجراس إلى أن تستفيق ضمائرهم).
كما نتلمس خيوط النزعة الإنسانية في رواية سافوي من خلال الحديث عن التهميش الذي حصل مع الشعب الفلسطيني ففي ص179 على لسان موسى( أصبحنا لاجئين مشردين في مدن الدنيا..).
وفي ص68 نلحظ وجود النزعة الإنسانية من خلال إشادة أبو جهاد بشخصيات أخذت مواقف معلنة من القضية الفلسطينية وهي من القضايا الإنسانية العامة( تلك التجربة التي تشرفنا بها وبروادها باكرا كماو تسي تونغ وشوإن لاي وكذلك الأمر مع هوشي منه وكذلك الحال مع جيفارا وزيارته الشهيرة لغزة).
كذلك امتزجت النزعة الإنسانية عند أبطال مهند الأخرس بمرارة الحرمان وعذاب المنفى والحنين للوطن وقد تجلى بالشوق لفلسطين ففي ص31( في المعسكر وأثناء التدريبات تقترب منك فلسطين كل يوم أكثر).
وتظهر النزعة الإنسانية بكل معانيها عندما تخلى أبو جهاد عن أحد مقاتليه ذيب وقدمه لأمه الحاجة سرحانة التي جاءت باحثة عنه وكانت قد فقدت زوجها في حرب الكرامة وابنها البكر في أحداث أيلول واعتقل الآخر ولم يتبقى لها سوى ذيب وأخواته ..ففي غرفة الميس وجه كلاما لذيب يحمل من معاني الإنسانية الشيء الكثير ص46( أمك وأخواتك أولى بك يا ذيب ،بهما فجاهد).
وقد تمتع مهند الأخرس بمعرفة تحريضية تكشف المفارقة بين الظالم والمظلوم ،القاتل والمقتول وذلك عندما رسم لنا مشهد مجموعة الفدائيين في الفندق فعلى لسان خديجة الفتاة التي رافقتهم من شارع جؤولة بعد أن تركها صديقها هناك فكانت المتحدثة بلسانهم مع العدو ( نحن مناضلون من أجل الحرية،لسنا قتلة،نحن حريصون على سلامة الرهائن ،نريد مبادلة سريعة).
ثم ص200( الأمور لا تبشر بالخير ...وهؤلاء لا يسعون إلى التفاوض فالقوات والحشود تزداد). وهنا يتضح الفرق بين الفدائيين وأهدافهم والعدو وأهدافه الدموية حيث أنهم لم يهتموا لرهائنهم مقابل القضاء على مجموعة الفدائيين فركلوا بذلك إنسانيتهم حتى مع بني جلدتهم.
بقي أن نقول وانتهينا حيث بدأنا فقد جمعت الرواية بين السيرة الذاتية والحكاية التاريخية والحوارات والحلم، ذلك الحلم الذي يكسر البناء المنطقي ويضفي على النص نوعا من الحوار الداخلي قوامه التأويل كحلم الغضنفر الذي ورد في بداية أحداث الرواية وهو في المعتقل ص6( حلم واحد اختلف فيه أبو جهاد عن البقية ،حرت كثيرا في تفسيرة). هذا الحلم الذي يفسر لا شعور الغضنفر ،ففي لا وعيه سكن البدر( أبو جهاد) الذي ظل يوصيه بأن يواصل العمل الفدائي ولا يتوقف...