ظاهرة الاغتراب في كحل مريم/ قصص قصيرة للكاتب السعودي حسن الشيخ


قراءة بديعة النعيمي 
 
يعيش العالم العربي كثيرا من التناقضات التي أنتجت العديد من الأزمات سواء على المستوى الاجتماعي أو الفكري أو النفسي. ولم يكن الأدباء يوما إلا جزءا من هذا العالم حيث أدت تلك الأزمات إلى تعرضهم لصدمة انعكست على تجربتهم الأدبية. وكلما ازدادت التحولات الحضارية تعقيدا وازدادت الأنظمة السياسية تعددا وتضاربا كلما انعكس ذلك على الإنسان بشكل عام فأصبح أكثر ميلا إلى الاضطراب والتمزق الداخلي وعلى الأديب بشكل خاص حيث انعدمت ثقتة بالواقع, فأفرزت معاناته على مستويات متعددة من الاغتراب. والاغتراب ظاهرة انعكست على كتاباته حتى غدا موضوعا بارزا فيها. فنجده يعمل على نقل رؤيته وأثر التحولات المحيطة في بنيته النفسية والفكرية من خلال نصوصه. 
وتعتبر القصة من أكثر الأشكال الأدبية اقتناصا لقضايا الواقع.من حيث أنها تمتلك القدرة على إعادة بناء تلك القضايا على نحو حيوي ومركز ومكثف يقوم على اختزال اللغة والفضاء زمانا ومكانا وشخوصا ثم نتيجة لذلك اختزال الموقف والرؤية الفنية المطروحة. ومن هنا نجد أن حسن الشيخ في كحل مريم قد توجه إلى عالم الغرابة والخيال والعجائبي لفهم الواقع ورصده ثم رفضه.حيث سعى من خلال أبطاله إلى تغييره والتحرر منه وإحلال واقع جديد أكثر حرية وكرامة.وقد يكون النزوع عنده إلى ذلك العالم للتعويض عن الشعور بالنقص الناتج عن القيودالمفروضه على الكاتب سياسيا واجتماعيا وثقافيا. 
وقد جسد الكاتب فكرة الاغتراب من خلال أبطال قصصه.فنجده وقد رسمها بدقة ليطرح من خلالها مشكلات نفسية بوحدتها وقلقها ويأسها وقد ظهرت صور الاغتراب بأنواعها الجسدي والذاتي وغيره من الأنواع في كحل مريم. 
ويتضح للمتلقي في القصة الموسومة ب أنا خنثى مظهر من مظاهر الاغتراب الجسدي على لسان البطل زكي أو البطلة زكية (هواجسي مشتتة,مبعثرة,أحاول لملمتها فيفضحني جسدي,أنا متعب من حمل هذا الجسد) ونلاحظ من خلال هذا الهاجس على لسان البطل/البطلة مقدار المسافة التي تزداد بين الذات والجسد. وانطلاقا من هذا نجد أن الذات تحاول أن تحط من قيمة الجسد الذي كان سبب اغترابها وآلامها فعلى لسان زكي/زكية ( أتمنى أن أعيش هادئا,ساكنا,مثل دودة صغيرة في بلور ملحي منسية منذ سنين). وإحساس الشخصية بالتقزز من جسد يجعلها تبحث عن الإنفصال عما حولها ( في قارورتي الزجاجية تلك سجنت نفسي,كانت حدودي الآمنة من الآخرين). 
وفي القصة الموسومة ب رجل المستنقع نجد الصراع بين الذات والجسد يؤدي إلى انفصال الذات عن الجسد ومحاولة الخروج منه إلى جسد آخر لا يشبهه (الآن أشعر أن هذا المستنقع بدأ يتسع لي ,إلا أنني أصبحت رخوا ,لينا ,قد بهت لون بشرتي واخضرّ,بدأت أفقد شكل ساقيّ شيئا فشيئا, فإذا هما تشبهان ساقيّ ضفدع عجوز....وعندما صرخت بأعلى صوتي لم يخرج من شفتيّ غير النقيق).وهنا يتضح لنا بأن البطل عندما تحول إلى ضفدع وخروجه من جسده الأصلي إلى جسد آخر نفى عنه أسباب الاغتراب التي أفقدته حريته.فكان التحول طريقه للإنطلاق بحثا عن ذاته الحقيقية ( الآن أشعر بالرضا وكفى ,وهذا المستنقع هو رحمي الأول الذي حملني قبل أن تلدني أمي هناك). 
وفي القصة الموسومة ب أنا أطير تتضح ملامح الاغتراب الذاتي حيث نجد البطل يعيش في الأوهام ويخلط بين الواقع والحلم. ويتضح هذا للمتلقي عندما يقرأ ما جاء على لسان البطل( ربما أنت تحلم ,هكذا قيل لي,إلا أنني متأكد من أنني أعيش الواقع لا الحلم,لا يهم ما يقوله الآخرون عني,فأنا أرسم واقعي لا تخيلاتي......أنكمش إلى داخل ذاتي ,أتكور, أدور على نفسي لآلاف المرات ,مخافة تسرب الحلم من يدي).فالبطل يستغرق في الحلم بإرادته ويتمسك به خوفا من فقدانه,لأنه يزيد من عزلتة ويفقده التواصل مع العالم من حوله. فكل شئ حوله يطير والطيران يرمز إلى الإنعتاق من قيود الواقع والحصول على الحرية التي تتوق ذاته إليها وربما تتوق لها ذات الكاتب. 
وقد سعى حسن الشيخ عبر أبطاله العجائبيين إلى إعادة إنتاج معاني وقوانين بديلة للواقع المستبد وكشف ما هو مضمر تحت سطح السرد وفي نفس الوقت الكشف عن حجم الاغتراب والفشل في تحقيق الذات عبر الواقع. ويتضح هذا في القصة الموسومة ب الصراخ بلغات مختلفة حيث نجد مجموعة غريبة من الناس أوصافهم غريبة تلاحق البطل وتسعى إلى إنزال عقاب ما فيه على ذنب لم يقترفه ( أجسامهم قصيرة جدا ,كأنهم عشيرة من الأقزام التي تعيش في القارات البعيدة إلا أن أيديهم طويلة جدا يلوحون بها أمامي) وبالرغم من اعتراف البطل بذنب لم يرتكبه إلا أن المجموعة لا تكف عن ملاحقته إلى أن تتسبب في سقوطه في مجاري المدينة الموحشة. وهذه القصة فيها إشارة إلى العجز عن تغيير الواقع المستبد. وهذه القصة كما الكثير من قصص المجموعة تحمل إشارات سياسية أعلنت عن ما هو مسكوت عنه.

كما أن اللجوء إلى تقنية الاسترجاع باستعادة الماضي المفقود وتكراره يجعل البطل ينفصل عن واقعه الذي يشعر فيه بالاغتراب النفسي ويستعيد نفسه من خلال الماضي البعيد ويتضح لنا هذا في القصة الموسومة ب لا أستطيع البقاء حيث البطل أحمد الذي يسير في شوارع المدينة بلا هدى يجتر ماضيه ويغمض عينيه لكي لا يرى سواه( تذكر آمنة التي يحملها جثة هامدة في داخله. تذكر ضحكتها التي تندلع بصخب هادئ من بين شفتيها الغليظتين المثيرتين,تطلع إلى الشوارع المزدحمة, والناس المسرعين والمباني الشاهقة....ثم أغمض عينيه كي يحتفظ في ذاكرته بما تبقى من رسمها الذي كسرته الأيام). 
ومن مظاهر الإغتراب لجوء الكاتب إلى توظيف السريالية أو ما وراء الطبيعة حيث ينعكس العالم الغريب لدى البطل على كينونته الداخلية وحالته النفسية والذهنية فيلجأ إلى تجاوز المنطق وتوظيف كل ما هو غريب لا ينتمي إلى الواقع ويقدمه على أنه واقع حقيقي عن طريق صنع العوالم الغريبة بالخيال والاستيهام بلغة تقترب من لغة الحياة اليومية المألوفة ليشاكل بين الواقع واللاواقع فيجعل اللاواقعي واقعي والعكس.وويتمثل هذا في القصة الموسومة ب كحل مريم حيث مريم تمتلك مكحلة سحرية ما أن تكتحل بكحلها حتى ترى تفاصيل المجهول والأحداث( ضاعت منها ابنتها مريم , فخرجت تبحث عنها..وقف أمامها عفريت من عفاريت الجن..فاخذها العفريت إلى أحد الكهوف الجبلية, وإذا بمريم نائمة فيه..وأهداها العفريت مكحلة,قال لها إنها من خزائن سليمان..اكتحلت بها مريم فرأت البعيد ..استطاعت أن تعرف نوايا الناس). وقد وظف الكاتب السريالية في أكثر من قصة في مجموعته القصصية لينقل للمتلقي مظاهر الإغتراب التي يعاني منها أبطاله. 
إذن فقد ارتبطت الغرابة في قصص حسن الشيخ بالوحشة وهي حالة من الشعور بالعزلة والخوف والإفتقار إلى الأمن التي نتجت عن علاقته بالآخر الذي يشاطره المكان فتعمل الوحشة عملها فتزداد الوساوس والآمال لذلك نجد الكاتب يلجأ إلى كل ما هو غريب وعجيب إلى ما وراء الواقع ليحول خوف أبطاله إلى طمأنينة ووحشتهم إلى أنس. 
بقي أن نقول بأن حسن الشيخ قاص وروائي سعودي من الأحساء عمل في الصحافة الثقافية واشتغل في الإعلام المرئي وهو أستاذ جامعي له العديد من الأعمال الإبداعية المنشورة.