رأيت جهنم في مدونات الأسير حسن سلامة بقلم: عيسى قراقع



وأنا أقرأ مدونات الأسير حسن سلامة التي جاءت بعنوان "خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ"، أصبت بالإجهاد، كنت أتوقف عن القراءة لأتنفس، ثم أعود مرة أخرى للقراءة، لم أستوعب أن كل ذلك يجري في ذلك العالم، عالم سجون الاحتلال الإسرائيلي، يبدو أننا لم ندرك تماماً نحن خارج السجن عن تفاصيل ذلك الجحيم حتى عاد حسن سلامة من لهيبه ليخبرنا عن مكوناته وتفاصيله، ربما لنتذكر رجال الجحيم أمثال ابن غفير وحكومته اليمينية المتطرفة التي تريد إرسال الشعب الفلسطيني إلى ذلك الجحيم. 
كيف عاش حسن سلامة 14 عاماً بين الحياة والموت؟ وكان الموت أقرب، يتربص به في كل حين، هناك في زنازين العزل الانفرادي في سجون الاحتلال، عاش في القبور، وحلّق الموت فوق رأسه آلاف المرات، كيف نجا هذا الأسير المستهدف من أعلى المستويات الحربية والأمنية والعسكرية ومن خبراء التعذيب الجسدي والنفسي في دولة الاحتلال؟ ظل حياً لم تبتلعه تلك الزنازين وترميه خلف الغياب وفي طيات النسيان. 
مدونات حسن سلامة القاسية تدخلك نفسياً وعصبياً إلى ذلك الميدان، ميدان القبور تحت الأرض، القتال ضد الموت الصهيوني، هناك في المكان البعيد الصامت المجهول، هناك حيث يدفن الأسرى تحت وطأة الرعب والملاحقة والحرمان والقهر واللايقين والغموض في الزمان والمكان، هناك حيث السيف والتوراة وزبائنة جهنم، ومشانق تفريغ الإنسان من تاريخه وهويته وتجريده من صفته كإنسان، كيف نجا حسن سلامة؟ لا بد أنها شجاعة المعاناة. 
مدونات الأسير حسن سلامة تسبب لك التشنج، أنت في زنازين ضيقة قذرة عفنة وسخة مليئة بالحشرات والجرذان والرطوبة والحرارة، لا شمس ولا هواء ولا أي شيء، جدران وأسلاك وكاميرات وتفتيشات يومية ليل نهار، سجانون ساديون عدوانيون، سجناء جنائيون مدمنون وخطرون يحيطون بك، أنت مكبل القدمين واليدين، محروم من التواصل مع أي كائن في العالم، لا نوم ولا استقرار، تنقلات مستمرة من عزل إلى عزل، وفي كل مرة تتعرض لحفلة من الضرب العنيف، تعيش في دائرة مغلقة من القبور والصناديق الحجرية، لا تسمع سوى الصراخ وصدى الحديد، المسبات والشتائم، الإذلال والإهانات، حسن سلامة عاش في هذه الأجواء لسنوات طويلة، يتحدث مع نفسه، ينتظر أحداً يأتي، هل مات الجميع ولم يبق إلا هو في هذا الجحيم تحت رحمة هؤلاء المجرمين والشياطين؟ 
كيف نجا حسن سلامة على مدار 14 عاماً من جحيم العزل الانفرادي؟ الإجهاد الذهني والنفسي صهر الأسير جسدياً ونفسياً لمحو قناعاته ومبادئه وتحطيم صورة الرمز البطل من أعماقه وتحويله إلى مجرد جثة، وكان الجلادون ينتظرون أن يصاب حسن بالجنون والهستيريا وبفقدان التوازن النفسي، وبالاضطراب والعصاب، وبعدم القدرة على تحديد الاتجاهات، أن يفقد ساعته البيولوجية ويستسلم وينهار، ويفقد حصانته الوطنية، ويهدر كيانه الإنساني ويفقد الذاكرة ويخرج من ساحة المعركة. 
كان الجلادون ينتظرون أن تكسر إرادة حسن سلامة وكافة المعزولين، ويصبح التحمل والمقاومة بلا جدوى، تجميد أحاسيسه ومشاعره وحيويته، تدمير كل ما يشكل عنصر كثافة ومقاومة ومجابهة في كيانه الإنساني، الشك والقلق والاكتئاب وعدم الثقة والهلع، تقويض الذات وفقدان المعنى للنضال الوطني، كانوا يريدون أن يتمنى حسن الموت بسرعة بدلاً من أن يأتي ببطء وعلى مهل. 
مدونات الأسير حسن سلامة تشكل فلسفة إنسانية ولاهوتاً للصمود والمقاومة، إنها عقيدة دونت بالدم والمعاناة وسط ذلك الجحيم الصهيوني، وفي تلك المنطقة المجهولة الواقعة بين عالم الموت والحياة، وربما هي رسالة تقول لنا بأننا جميعاً كنا هناك، وأن الذي عاشه حسن سلامة في تلك الزنازين نعيشه خارج الزنازين بصورة أخرى، حياة مخنوقة مكيّسة، نبحث عن رئة وهواء لكي نتنفس. 
إن فلسفة مدونات حسن سلامة تقول لنا: 
1-لا تخشى الموت، وإنما أن تخشى من نفسك أن تضعف وتستكين وتستسلم وتساوم، عندها ستموت آلاف المرات يومياً، لأن الموت ليس فناء الجسد، ولكن أن ترى حلمك الذي عشت من أجله ينهار أمامك. 
2-المقاومة لا تنتهي حتى داخل السجن دفاعاً عن الكرامة والكبرياء الإنساني والهوية النضالية، فالسجون ساحات اشتباك بين إرادة الأسير وإرادة المحتل. 
3-التحدي والصبر، والوعي والإيمان بعدالة القضية، ومن ذلك تأتي كل أسباب الصمود، الصمود الجسدي والمعنوي والروحي، الحرية الداخلية التي تعلو على كل حرية، تهدم الأسوار وتجري الرياح وتستعيد الذكريات والأحلام الجميلة. 
4-قوة الفكر والعقل والروح، لقد احتجزوا حسن سلامة زمناً طويلاً، لكنهم لم يستطيعوا أن يحتجزوا عقله وروحه، لقد تغلب على الحرمان والملل وعلى الحياة الميكانيكية الروتينية، حلق في أحلامه وذكرياته خارج الجدران، خلق لنفسه عالماً موازياً وتحرر من الزنازين ومن تلك الآبار السحيقة. 
5-الحب هو القوة العظمى التي تمدك بكل وسائل الصمود والمقاومة، فكان ارتباط الأسير حسن سلامة المحكوم بـ48 مؤبداً بخطيبته غفران زامل؛ قد أحدث تحولاً في حياته، فهي التي أنقذته من عالم الأموات، إنها المرأة الفلسطينية حارسة الفجر والمستقبل، حركت غفران زامل حياة الأسير حسن في العزل، انفتحت عواطفه ومشاعره، شكلت له درعاً منيعاً من الإصابة بالألم النفسي والتبلد العاطفي، استعاد إنسانيته وضرب موعداً مع الزفاف والحياة والفرح والحرية. 
وإن جاز لي أن أشبه الأخت غفران زامل بـ(بياتريس) في الكوميديا الإلهية لدانتي، بياتريس التي قادت دانتي من الجحيم إلى الفردوس وأنقذته من حياة العذاب والموت، حيث كان دانتي محكوماً بالإعدام في منفاه، بعد أن تصدى لسلطة الكنيسة في العصور الوسطى، وسياسة محاكم التفتيش والإبادات الجماعية. 
على ابن غفير وكل قطاع الطرق في إسرائيل أن يقرأوا خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ، عندها سيكتشفون هزيمتهم أمام جبروت وصلابة الأسرى الفلسطينيين الذين أعلنوا صومهم وإضرابهم في بداية شهر رمضان رداً على الهجمة الإسرائيلي التي تريد أن تحول السجون إلى جحيم لا يطاق.