النائب الرواشدة يكتب : شلال الدماء ودوامة الصمت..
أمام هذا الشلال النازف من الدماء الذي لم يتوقف على ارض الشهداء وميدان البطولات، وكأنه أصبح مشهدا عاديا مألوفا نتعايش معه وكأنه قدر لا مفر منه، وهذا الجرح الدامي منذ عقود لم يعد يؤلمنا ولا يحرك فينا ساكنا، حتى اللسان توقف عن الاستنكار والشجب والادانة من محطات الإذاعة والتلفزة العربية، التي تبث الخبر العاجز عن ارتقاء الشهداء وبأرقام مرتفعة، وكأنه خبر عن أي أمر عابر، وتدير الصورة لتحظى أخبار الفنانين وزيارات المسؤولين وقص شرائط الافتتاح وبرامج الطبخ، بوقت أطول بكثير من اهتمام محطاتنا الحكومية وغير الحكومية بهذا الحدث، وكأننا بتنا نخاف من نشر هذه الاخبار ونستحي من الإشارة المطولة اليها، كيف لا وهي لم تعد تحرك في كرامتنا المهدورة على اعتاب مجلس الامن الذي اكتفى بالتعبير عن القلق مما يجري وكأنه يسلم بحقيقة الامر على انه هوشة بين اثنين تقلق مضجع السكان في حي شعبي، متناسيا القرارات الدولية بعدم شرعية الاحتلال ووجود الصهاينة على الأرض المقدسة. وفي نفس الوقت ما زالت اذاعاتنا ومحطات التلفزة تبث من الأغاني والمسلسلات وتضخ النكات وكان شيئا لم يكن، وتشبعنا تحليلات ونصائح عن طرق تخسيس الوزن والرياضة المناسبة، وفنون الاسترخاء واليوغا.
عدد الشهداء القياسي في يوم واحد امام جيش مدجج تدعمه كل قوى الشر، يشكل صورة مأساوية لفعل لم يواجه بردة فعل تتناسب وحجم الحدث من حكوماتنا على امتداد الشارع العربي والمسلم، وكأن هذه الدماء ليست عربية وكان هذه الجنازات في عالم آخر، ومشهد وداع الأمهات لشباب في عمر الورود لم يحرك فينا أي مشاعر، وباتت مشاعرنا ميته بفعل سياسات الاستخذاء والتراجع امام حالة عداء للامة بأكملها واستباحة أراضيها ومساكنها ولم يعد يخشى عدونا من ضرب أي مكان والاستهانة بكل القيم لأنه أصبح معتادا على برودة رد الفعل والوقوف امام الفعل الكلامي وحذلقة اللسان لا أكثر، لست ادري ما هو السر في هذا الصمت الرسمي وغير الرسمي وعدم تناسب ردة الفعل مع الفعل حسب قوانين الفيزياء، حتى تدنيس المقدسات واستباحة الدم لا تواجه برد فعل مناسب، فمتى تستيقظ فينا حرارة الرد؟ ما هو الفعل المناسب لتحريك امة بأكملها من هذا السبات العميق؟ ومن هذا الخدر الذي جعل من عدونا لا يهتم لوجودنا ولا لمشاعرنا ولا لردة الفعل لدينا، يمارس البطش والهدم والقتل واستباحة المقدسات، فماذا بقي لدينا يأخذه ونحن صامتون، ونحن نائمون، يظن الواحد فينا انه بعيد عن الحدث ولا علاقة له به، فمن ضمير الانسان الحر والحي صرخة لأولئك الذين ما زالوا يعتقدون انهم بعيدون عن الحدث او لا يعنيهم ما يجري، فعدونا لا يعترف بالحياد ولا المسالمة ولديه الاستعداد ان يستبيح أي مكان على امتداد الوطن الكبير والشواهد كثيرة، ولا يوجد لديه محرمات، او تقدير لأي ميثاق او عهد.
اما آن لحكوماتنا وقف التنسيق والتشاور؟ اما آن لها ان تكف عن العبارات المكررة والتي لم تعد تقنع أحدا بجديتها؟ اما آن الأوان ان نرى استجابة تتناسب وحجم الحدث؟ اما آن الأوان التوقف عن استخدام عبارات اكل الدهر عليها وشرب، ولم يعد السامعون يهتمون لها، الامة بحاجة الى رد فعل عملي مقنع يتناسب وحجم الحدث والكف عن الاستهانة بالمشاعر والتوقف عن الانفصام والانفصال عن الواقع من محطات التلفزة والاذاعات بما يتناسب والموقف، فمشاعرنا لم تعد تحتمل هذا الاستخفاف، فالدماء التي تسيل هي دماء أبناء لنا وهم رأس الرمح في الدفاع عن كرامة الامة، فهم يستحقون منا ان نكون على مستوى تضحياتهم وطهارة دمائهم وحجم الإقدام وحب الشهادة لديهم.
كل الرحمة للشهداء والدعوات بالشفاء للجرحى والصبر للأهل والامهات المحتسبات، والخزي لمن يخذلهم ولم يساند نضالهم المشروع ويدعم صمودهم الأسطوري.