الدين اللادينيّ السرّي للدولة اللبنانية
المادة التاسعة من الدستور اللبناني، والباقية على حالها لم يدخلها تعديل منذ صدور الدستور في أيار 1926، تكثّف وإلى حدّ كبير «منطق الالتباس» الواقع فيه البلد منذ تأسيسه الكولونيالي.
تنص هذه المادة على أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية».
لقد كانت هذه المادة هذا الصيف مثاراً لجدل حادّ بين نفر يراها من بوابة «حرية الاعتقاد مطلقة» وبين نفر يقرأها من بوابة «تأدية الدولة فروض الإجلال لله تعالى». في الحالتين جرت المكابرة على التباسات المادة التي تكثف مشكلة البلد بامتياز.
فلئن كانت «حرية الاعتقاد مطلقة» صار من المنطقي أن يَطرح المرء السؤال عن اشتمال هذا الإطلاق على الإلحاد، والإ ما معنى اطلاق حرية الاعتقاد حينها؟ وجب أن تُعدَّل إذا فيقال حرية الاعتقاد مشروطة بالإيمان بالخالق.
أو دع الإلحاد وشأنه جانباً، فقد يقال إن المادة تعطي للملحد حق عدم اعتقاده بوجود خالق وموحي ومحيي، إنما تلزمه، أو تلزم نفسها كدولة بالأحرى، بفروض الإجلال للذات الإلهية.
لكن، المسألة الأخطر أنه كان يفترض أن يكون متاحاً حسب منطوق المادة أن تسوّغ لحملات التبشير والتبليغ بين مختلف الجماعات الدينية في لبنان، كل ملة تدعو أبناء الأخرى للهداية على يدها. لكن هذا غير جائز لبنانياً. فالبلد قائم على «دستور ضمني» غير مكتوب، إلا لماماً، مفاده أن لا تسعى الطوائف لمزاحمة بعضها البعض بالدعاية اللاهوتية واللاهوتية المضادة فيما بينها. فقط على الطوائف فيها أن تُغلّب المجاملات المنمقة والمشتركات الرمزية، دون إطالة وبحذر. ويسمّون ذلك «حواراً اسلامياً – مسيحياً». بل أن الدستور الضمني للبنان كما رست عليه حاله، أو مأساته، قوامه ثلاثة.
فمن ناحية، لا تبشير ولا تبليغ من لدن طائفة إلى أخرى. ومن ناحية ثانية، لا مزاحمة حرة مقوننة يحتكم إليها «الاقتصاد الحر» فيه، إلا بالوكالات الحصرية!
ولا لجوء إلى التصويت فيه إلا على هامش «الديمقراطية التوافقية» التي تشترط قضاء المسائل بالإجماع… وهو، في زمن تغلب «حزب الله» إجماع مستوجب تأمينه في المسائل التي يرى الحزب لزوم أن تكون كذلك، في حين تُترك مسائل استراتيجية مثل السلاح الموازي لسلاح الدولة، وقرار الحرب والسلم، في غير حاجة إلى تأمين إجماع أو توافق حولهما.
هكذا يقوم شكل من أشكال العقد الاجتماعي الهجين.
طوائف تجامل بعضها بعضاً، ولا تسعى لزيادة عدد «أبنائها» إلا بالإنجاب وكبح الهجرة، وليس بدعوة الآخرين إليها. الأمر الذي يتنافى مع المسار التاريخي التبشيري بامتياز لملة الموارنة في التاريخ العثماني التي توسعت جغرافياً وزادت عددياً بمورنة عائلات كثيرة شيعية ودرزية وسنية. ثم اقتصاد حر من دون سوق حرة. ولأجل هذا تتحدث مقدمة الدستور المستحدثة بعد اتفاق الطائف عن أن «النظام الاقتصادي حر» متجنبة الحديث عن «اقتصاد السوق».
الدولة الوطنية الحديثة تعامل نفسها هي أيضاً مقدسة، ليس فقط عندما تنتهج مسارا علمانيا حادا، بل حتى عندما تنص في دستورها على دين للدولة
أما النظام السياسي الذي يُراد له أن يعمل من دون فصل بين السلطات ولا تداول على السلطة ولا احتكام للتصويت إلا عندما تكون الطبخة قد أعدت سلفاً، ولو كان ثمن ذلك تعطيل البلد كله عامين وثلاثة وأكثر. هو نظام متسق مع هذا الاقتصاد ومع اللاهوت السياسي لهذه الدولة بشكل عام، على ما تكثفه المادة التاسعة من دستورها.
فإذا أريد لهذه المادة أن تُقرأ لا من زاوية حرية الاعتقاد المطلقة (والإطلاق يعني قانوناً ما لا يحده قانون!) إنما من زاوية تأدية الدولة فروض الإجلال لله تعالى دخلنا في نوع آخر من أنواع الحيص بيص.
من ناحية، الفرد غير مقيد بشروط على حرية اعتقاده المطلقة، ومن ناحية ثانية، الدولة فحسب مقيدة بفروض الإجلال.
فهل يمكن لدولة أن تؤدي فروض الإجلال للذات الإلهية من دون الإلتزام بالفروض والطاعات في الكتب المنزلة والشرائع المستقاة منها؟ لكن المادة لم تسبك على نحو تقول فيه «إن الدولة تؤدي فروض الإجلال لله تعالى». بل خطفها المشرّع اذ قال «بتأديتها» كما لو أن المسألة تحصيل حاصل، أو دحض حجة، أو إقفال باب. ثم ما دين هذه الدولة التي «بتأديتها» هذه الفروض «تحترم جميع الأديان والمذاهب»؟
منطق سبك النص يزكي فرضية أن هذه الدولة لها دين مبيت، على منزلة واحدة من جميع الأديان والمذاهب فيها! دين مدني إذا ما استعدنا مقولة افتتحها جان جاك روسو في العقد الاجتماعي.
في نهاية الأمر هناك أمر من ثلاثة: إما أن لهذه الدولة «دين مدني» لا هو دين الإسلام ولا النصرانية ولا اليهودية إنما يؤدي فروض الإجلال لله تعالى، ويحترم جميع الأديان والمذاهب، إنما بشرط «عدم الإخلال بالنظام العام» حسب صريح المادة. وإما أن لهذه الدولة «دين مشترك» بين الديانات فيها، الأمر الذي سيعني بالنتيجة أنها على دين جديد «ما بعد مسيحي وما بعد إسلامي»!
لقد وُضع هذا الدستور في ظل الإنتداب الفرنسي، وبانتداب من «الجمهورية الثالثة» تلك التي عمدت إلى توطيد مبدأ اللائكية أو العلمانية الحاسمة عام 1905 عندما آثرت الفصل التام لكل من الدولة والمدرسة العمومية عن الكنيسة. مع ذلك لم يكن بمقدور الجمهورية الثالثة حين تصرّفت بأمر دسترة لبنان الكبير أن تجبله على صورتها، وإن كان علمها الأزرق والأبيض والأحمر هو علمه مضافة في وسطه الأرزة.
استمر ذلك حتى استقلال لبنان عن فرنسا. اعتمد العلم الفرنسي ملبننا، أي بعد أن توسطته شجرة لها في الأساس مدلول ديني توراتي، ومدلول متصل بالتبني الماروني لها كرم كنسي. أما دولة جبل الدروز التي أقامها الفرنسيون في جنوب سوريا الحالية فاستمزجوا لها العلم الدرزي زائد العلم الفرنسي مصغراً كحاشية عليه.
باستحضار الأرزة، لم يكن العلم اللبناني محايداً تماماً بين الطوائف. والمؤرخ قيس فرّو يلفت الانتباه في كتابه «ابتداع لبنان – القومية والدولة في ظل الانتداب» أنّه عندما رسم العلم اللبناني الأول لم يكن أغلب سكّان البقاع وعكار وجبل عامل قد رأوا أرزة واحدة في حياتهم، انما في المقابل احتفى رواد الكيانية اللبنانية المتمركزة كول الموارنة بالأرزة كنموذج أساسي لبناء تصوراتهم.
لكن بالنتيجة، هذه الأرزة التوراتية ثم الممورنة قبل أن تصبح «لبنانية للجميع» كانت ضمن علم منبثق عن الثورة الفرنسية، ترفعه الجمهورية الثالثة التي أنجزت الفصل التام للدين عن الدولة في فرنسا. وبالتوازي، المادة التاسعة من دستور 1926، المستمرة الى اليوم، جاءت تحمل معها التباساً آخر، بل أكثر ضراوة في ممكناته المحتبسة أو المُدمجة.
فنص المادة، الفرنسي بالأساس، ليس هو طبق الأصل نصها العربي، الناشئ عن ترجمة أشرف عليها الشيخ محمد الجسر. مصطلح «الله تعالى» ليس شائعاُ عند المسيحيين كشيوعه في المسلمين. والمصطلح الفرنسي «العالي جداً» أو «العليّ» ليس هو تماماً النص العربي. في مطرح ما، الدستور، من ناحية مادته التاسعة، المتعلقة باللاهوت السياسي للدولة اللبنانية، هو دستوران. في الأصل الفرنسي محاولة توفيق بين العلمانية الجمهورية وبين السياسة الكولونيالية لفرنسا. وفي الترجمة العربية «أسلمة ضمنية» ومبكرة للصيغة، من سنة 1926.
يبقى أن الدولة التي «تؤدي فروض الإجلال لله تعالى» وتحترم في الوقت نفسه جميع الديانات والمذاهب لا تعرف إذا كان لها دين سري تكتمه، مستوحى من المشترك بين الديانات والمذاهب فيها، أو من المشترك بين أحوال الدين وأحوال الدولة – الأمة. في مكان ما، يستشف من المادة أن الدولة تلتزم التقية تجاه أتباع الديانات!
والمشكلة الثانية أن الدولة الوطنية الحديثة تعامل نفسها هي أيضاً مقدسة، ليس فقط عندما تنتهج مسارا علمانيا حادا، بل حتى عندما تنص في دستورها على دين للدولة. دين الدولة هنا يسمح لها بأن تسوّغ عملية تقديسها لذاتها، ولسيادتها، كدولة، أو من خلال تجيير القدسية للوطن. ومن هنا القول بأن «تراب الوطن مقدّس».
الدولة الوطنية تجلب معها مقدسات موازية للمقدسات الدينية الصرف. ما الحال في دولة بلا دين دولة انما تؤدي تؤدي فروض الإجلال للإله؟
الدولة، على ما يمكن أن يصل إليه منطق لاهوتها السياسي في المادة التاسعة من الدستور، هي تحت الله وفوق الأديان، بل هي صلة الوصل بين الإلهي والدينيّ! وطبعاً هذا لن يقبل به أتباع الأديان. لكن المادة توجد أساساً منطقياً للتفكير بذلك. للتفكير بأن المادة أقرب إلى المخيلة اللائكية بل الماسونية، من المخيال الإبراهيمي!
والمادة نفسها تنحو لذلك حين تقرن احترامها للأديان والمذاهب فيها بالحفاظ على النظام العام. بالتالي نصها يشتبه في تعددية الأديان والمذاهب كما في الغلواء الدينية احتمال خروج على النظام العام، ليعود من ثم فيعطي جائزة ترضية ثمينة للمؤسسات الدينية: نظام الأحوال الشخصية. ومن ثم تأتي المادة العاشرة لتكرس دينية التعليم. وفي الحالتين تنازل للدولة عن سيادتها. من دون أن تتنازل في الوقت نفسه عن النص الدستوري المراوغ، الذي إما أن يبيت ديناً سرّياً للدولة اللبنانية لا يعلمه مواطن، وإما منزلة وسيطة بين العالم العُلوي وبين العالم الدنيوي… وإما هي دولة يراها كل ذي دين على الدين الذي هو عليه، وهذا ما حصل، وهذا ما عطّلها.
وسام سعادة
كاتب من لبنان