بوصلة الخراب
الياس حوري
حين كان ولي العهد السعودي يتحدث في «فوكس نيوز» عن التطبيع مع إسرائيل، وتحسين شروط حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة تساءلت في سري، ولكن أين هي البوصلة؟
فالبوصلة كانت حتى الأمس القريب هي الدليل، تسأل لماذا يموت الناس في سورية، فيأتيك الجواب بأن البوصلة هي الموضوع، البوصلة هي فلسطين وكل ما عدا ذلك فباطل.
حتى الأنظمة الخليجية احتمت طويلاً بهذه البوصلة، بحيث اختلطت الأمور في أيامنا هذه ولم نعد قادرين على التمييز بين الممانعين والمطبّعين، المطبّع يستعيد علاقاته بالممانع، والممانع يزحف بحثاً عن مساعدات من المطبّع.
هنا نعود إلى فكرة البوصلة نفسها، فأنا مقتنع بأن فلسطين هي البوصلة التي تدلنا على مكان المواجهة الرئيسي، لكن هذا لا يعني أن الاستبداد والإفقار والسجون السياسية والقتل يجب ألّا تقاوم، بل على العكس من ذلك.
تعالوا ندقق في معاني الكلمات قبل أن نتبناها ونستخدمها، فحين نقول إن فلسطين هي البوصلة، نفهم أن البوصلة تقودنا إلى الاتجاه، ولكن ما معنى فلسطين؟
هنا علينا أن نحدد وندقق كي نعرف إلى أين تأخذنا البوصلة.
فلسطين ليست أرضاً محتلة فقط، بل هي أيضاً شعب يواجه التطهير العرقي والأبرتهايد ومصادرة الأراضي والقتل والعسف والاضطهاد والسجون والتعذيب والحرمان من حقوقه المدنية والسياسية.
فحين نقول إن فلسطين هي البوصلة، فهذا يعني أننا رسمنا خريطة الحرية في العالم العربي، بل وفي العالم بأسره.
فكرة فلسطين، وفق إدوارد سعيد، هي فكرة الحرية، فالفلسطينيات والفلسطينيون قاتلوا ويقاتلون من أجل حريتهم. حرية الإنسان وتحرره من قوى الاحتلال والاستعمار هي القيمة العليا التي تتمحور جميع القيم من حولها.
وهم يناضلون من أجل أن يتجلى الحق في حقيقة معاناتهم. حقهم هو إزاحة أشباح الظلم والظلام، وحقيقتهم هي البحث عن نور الحق، حين تعرفون الحق فالحق يحرركم.
وهم يقاومون التوقيف الاحتياطي التعسفي من دون تهمة أو محاكمة، هل تتخيلون مواطناً عربياً يؤيد اعتقال مواطنين من دون تهمة أو محاكمة، ثم يأتي ليحدثك عن البوصلة؟
وهم يقاومون التعذيب في السجون الإسرائيلية، ومن أعماق مآسيهم ينظرون إلى أقرانهم العرب في سجون الأنظمة بعيون الأسى والحزن.
وهم يناضلون من أجل حقوقهم السياسية وعلى رأسها حرية التعبير وحرية تقرير المصير.
أما السجناء العرب فلن تقرأ عن معاناتهم إلا في روايات مهربة على أوراق السجائر من السجون، تماماً كما يفعل الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. اسألوا وليد دقة وفرج بيرقدار وباسم خندقجي كيف كتبوا روائعهم.
معاني فلسطين لا تحصى، أوقفوا لعبة الكلمات المتقاطعة التي تلغي معاني الكلمات، وتعالوا نبحث في مآلات التطبيع:
هناك تطبيعان: تطبيع مشرقي قادته مصر وتبعها الأردن، وهو تطبيع بارد راعت فيه الحكومتان المصرية والأردنية الحد الأدنى من مشاعر الناس.
وتطبيع خليجي قادته الإمارات وتبعتها البحرين والسودان والمغرب، وهو تطبيع ساخن خصوصاً من قبل الإمارات، كأنهم اكتشفوا قارة جديدة اسمها إسرائيل.
أما التطبيع الثالث الذي نحن على أبوابه فهو التطبيع السعودي الإسرائيلي، وهو التطبيع الأكثر خطورة لأنه يهدد بجر العالم العربي بأسره إلى الهاوية.
حتى الآن لا تزال الأمور غامضة، فالتفاصيل ليست معلنة، كي نفهم من باع ومن اشترى، لكن خوفنا نابع من تجربتنا العربية حيث يبيع العرب ويشتري الإسرائيليون بأرخص الأثمان.
غير أن ما فات المطبعين هو أنهم يبيعون ويشترون ما لا يباع ولا يشترى ولا ثمن له. من هنا يجب ألّا نخاف من التطبيع والمطبعين والراقصين والمزمرين، فزمن الانحطاط لا يستطيع أن يدوم إلى الأبد.
عندما تم توقيع اتفاقيات «أبراهام»، ساد جو من الإحباط في العالم العربي، وكان إحباطاً وهمياً، فما جرى كان عملية إسقاط سريعة للأقنعة. كنا نعرف أن التطبيع ليس سوى تتبيع، وأنه جرى من زمان تحت أقنعة العروبة ونصرة فلسطين. مع اتفاقيات «أبراهام» ارتحنا من السماجة ومن اللغو. هم من الأول؛ أي منذ أن اكتشف عبد الرحمن منيف «مدن الملح» في رائعته الروائية، كانوا كذلك.
التطبيع إذاً ليس هو الموضوع، لكن سقوط الأقنعة بهذا الشكل ليس سوى علامة على انحطاط العرب.
أين مصر؟ وأين سورية؟ وأين العراق؟ وأين لبنان؟
هؤلاء الذين صعدوا على أنقاض العالم العربي سوف تبتلعهم هذه الأنقاض، لكنهم يعيثون في الأرض فساداً وإفساداً في هذا الوقت المستقطع بين الحروب.
غير أن السؤال الذي يحيرني هو: لماذا التطبيع اليوم؟
هنا تقع مفارقة الحسابات الخاطئة، هل من أجل الحماية من إيران؟ ومن قال إن إسرائيل تحمي أحداً؟ أم ماذا؟
والله لا أدري، لكن ما أعرفه هو أن بوصلة التطبيع تقود إلى الخراب.