العمق الأردني بدأ يعترف بالمخاطر… «عزل الأغوار» أمنياً قد لا ينفع إذا تدحرج «الترانسفير»
إن «تحذير» وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي على هامش مباحثاته في عمان مع نظيره الأمريكي، من كلفة «التحريك الديمغرافي» في قطاع غزة، قد يشكل أول «إقرار رسمي» أردني عملياً بحصول «مستجدين» في غاية الأهمية ضمن مسارات معركة طوفان الأقصى.
المستجد الأول يتمثل في أن الخطوة التالية لليمين الإسرائيلي في حال التمكن من التسبب بحالة نزوح جماهيرية من شمالي قطاع غزة إلى جنوبه ثم سيناء المصرية، ستكون حتماً الانتقال إلى «مشروع مماثل» في الضفة الغربية المحتلة. والمستجد الثاني هو الاعتراف رسمياً ولأول مرة في عمق المؤسسة الدبلوماسية الأردنية بأن خطط التأثير والاحتياط في السياق أردنياً تكاد تنفد، والصدام -كما قال سياسيون كبار متعددون في عمان بينهم وزير البلاط الأسبق مروان المعشر- «قادم لا محالة» لأطول حدود مع الكيان المحتل على ضفتي نهر شرق الأردن.
«أزمة لجوء جديدة»
قبل تحذير الصفدي مساء الخميس من «أزمة لجوء جديدة» كان الوزير الأردني والنخبة التي تحيط به إما صامتين أو منزعجين من نغمة «هواجس ومخاطر التكيف» لكن الضوء الأخضر الأمريكي لحملة إسرائيل الحالية على غزة هو ما أربك الخطوط الأردنية؛ لأن المؤسسة عموماً كانت منذ عام 1994 مطمئنة إلى أن المملكة تجاوزت مشكلات الترانسفير المحتمل بتوقيع اتفاقية وادي عربة، ولم تستمع لنصائح المعشر الذي أعلن عدة مرات أمام «القدس العربي» أن إسرائيل التي وقعت بلادنا معها الاتفاق لم تعد موجودة.
بالمعنى السياسي والدبلوماسي، برزت أول دلالة على أن مؤسسات العمق الأردنية بدأت تقر وتعترف بمخاطر ما يفعله الإسرائيليون.
وما لا تريد السلطات الرسمية الإقرار به بعد لأنه لا يناسب مقاسات بقايا المؤمنين بالشراكة والسلام مع الإسرائيليين، وفقاً للسياسي مروان الفاعوري، هو القول بأن كتائب القسام أصبحت بدون ترتيب مسبق من أي نوع هي بوابة لأمرين: أولاً، منع الترانسفير في اتجاه الأردن، وثانياً الدفاع وبقوة وبالدم عن «الوصاية» في القدس المحتلة.
كثيرون في نخب الدائرة الرسمية لا يألفون التعامل مع وقائع على الأرض من هذا النوع، وآخرون يحاولون مراوغة القناعات المتجددة والتحولات المهمة.
لكن الإقرار ضمناً بذلك، سواء عبر تصريحات الصفدي أو غيره، دفع الحكومة لاتخاذ قرارين حتى الآن في استراتيجية التعامل والاشتباك إلى أن تتغير الظروف والاعتبارات الموضوعية:
قراران
القرار الأول تمثل في فتح المجال وبصورة ملموسة لتعبيرات الشارع الأردني في الاعتراض والتضامن مع المقاومة، ثم إتاحة وسائل الإعلام الرسمي أمام بعض قادة حركة حماس، ولاحقاً «لقاء تفاهم» مع القوة الأبرز المحركة في الشارع، وهي الإخوان المسلمين على الرغم من أسطوانة «الرخصة والشرعية».
القرار الثاني تعبر عنه الإجراءات الأمنية والدبلوماسية التي اتخذت على مستوى «خلية الأزمة السيادية» تفاعلاً مع تدحرج أحداث قطاع غزة، حيث اتجاه مقرر بعدم منح أي عملية لتحريك ديمغرافي في غزة شرعية من أي صنف أردنياً وعربياً، ثم العمل على تصليب الموقف الرسمي «الذي تراخى في الساعات القليلة الماضية».
وفي الأثناء، السعي مجدداً لاعتبار «أمني» يعزل تماماً على الأقل في هذه المرحلة وقدر المستطاع منطقة «الأغوار» عن كل سياق الاحتجاج الشعبي قدر الإمكان، على أن يلتقط الإسرائيليون والأمريكيون الرسالة.
لذلك حصراً، يدل تصريح الصفدي عن رفض صناعة أزمة نزوح ولجوء جديدة في غزة على أن هواجس العمق في الدولة الأردنية حتى الآن هي التي تحركت وتفاعلت وليس هواجس الشارع، وإن كانت بوصلة الشارع الواعي المنضبط الذي يعرف المحددات ـ في رأي عضو البرلمان السابق الدكتورة ديمة طهبوب ـ ستبقى ورقة رابحة جداً يحرم القرار السياسي المملكة من توظيفها.
سمعت «القدس العربي» تقييماً بهذا المعنى من طهبوب على هامش مشاركتها في حوار متلفز.
وللأسباب سالفة الذكر، في المقابل، يمكن القول إن وصول الهواجس إلى عمق القرار والتعبير عنها علناً لم يسانده رسمياً وعلناً بعد أي ترتيب مع قوى الشارع له علاقة بخطط الرد والاشتباك، الأمر الذي يجعل الأمواج متلاطمة أكثر والنقصان حاداً في الرواية الرسمية المحلية، كما لاحظ سابقاً السياسي طاهر المصري خلافاً لأن ذلك قد يؤشر إلى «فراغ» مقلق في «خيارات المؤسسة». عملياً، أطلقت المجازر التي يرتكبها العدو في غزة كل هواجس الكون التي تختزلها ذاكرة الأردنيين.
«الخطوة التالية»
ووسط تنامي مشاعر القهر ومخاوف «الخطوة التالية» قفز التكتيك الأمني غير المفهوم سياسياً، الذي لا يريد السماح للأردنيين بالوجود والتعبير على أكتاف منطقة الأغوار، مع أن العكس؛ أي إذا ما تيسرت القدرة على التنظيم الملتزم، قد يكون هو المطلوب لتحسين الشرط الأردني في لعبة مفاوضة الطاولة الجديدة.
الانطباع هنا حصراً وبعد تداخل «الأمني الداخلي» بالقومي والإقليمي والجغرافي ضمن نتائج معركة «طوقان الأقصى» أن الدبلوماسية الأردنية بين خيارين في ذهن الشارع العام، هما: «العلم المسبق» بمسار الخطط والتحولات، وهو احتمال مستبعد؛ أو «العجز» ضمن منظومة العجز العربي التي تحدث عنها علناً رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الكباريتي وهو يقرنها بـ «النفاق الدولي».
وعليه، يصبح «عزل الأغوار» عن سياق التعبير السلمي وبطريقة أمنية قد تنطوي على مبالغة خطوة تؤشر إلى أحد الاحتمالين، والأرجح إلى «الارتباك والعجز» وتلك بحد ذاتها مقاربة متنامية التحدي، لأن معابر الأغوار وترسيم الحدود المنجز في اتفاقية وادي عربة ستبدأ مسألة «قد تبدأ بالسقوط» في اللحظة التي تسقط فيها الحدود المصرية مع غزة أو تستسلم تحت وطأة الضغط الإنساني لسردية «اللجوء الجديدة». يعلم المسؤولون في عمان ذلك جيداً، ويعلمون إذا ما أخفق النظام الرسمي العربي في منع هذا التحول الدراماتيكي بمسار الأحداث، أن الخطوات التكتيكية في عزل الأغوار «لن تنفع» بعد الآن، وبأن خيارات الاضطراب والفوضى وحتى الصراع العسكري قد تبرز وبقوة على أساس القناعة بأن الترانسفير من الضفة قد يبدأ أيضاً.
بسام البدارين