الشريط الاخباري : في مقابلة حصرية لوزير الأسرى السابق "عيسى قراقع" .. ماذا يحدث في غزّة ..؟؟


إعداد: سليم النجار- وداد أبوشنب

" مقدِّمة"

مفردة "السؤال" وحدها تحيل إلى الحرية المطلقة في تقليب الأفكار على وجوهها، ربّما هدمها من الأساس والبناء على أنقاضها، كما أنَّها من أسس مواجهة المجازر وحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزّة والضّفّة، من قِبَل الاحتلال الاسرائيلي٠

في هذا الملف نلتقي بعدد من الكُتّاب العرب الذين يُقدِّمون لنا رؤاهم حول ماذا يحدث في غزّة؟

 وما يستدعي الدرس والتمحيص والنقاش والجدال والنقد، لأنّ الأشياء تحيا بالدرس وإعادة الفهم، وتموت بالحفظ والتلقين٠

مدير المكتبة الوطنية الفلسطينية ووزير الأسرى السابق "عيسى قراقع" من فلسطين يكتب لنا من زاويته "ماذا يحدث غزة"؟

 

تقرير سري صادر من غرفة التشريح

عيسى قراقع/فلسطين

 

1-استراتيجية تشريح جسد غزة:

الحد الأدنى هو كشف التقرير السري الصادر عن غرفة التشريح لجسد فلسطيني يسمى غزة، لا أقف مجرد متفرج والعيش على شكل متفرج، فأن تعيش مجرد شاهد هذا ليس عيشا، فالمجتمع الآلي الغربي لا يعطي بني الإنسان إلا مكان المتفرجين، ولأني لست كذلك، قرّرت أن أضع بين أيديكم فحوى التقرير الذي صدر عن غرفة التشريح في معهد أبو كبير الإسرائيلي، والذي أحيط بسرية تامة، وتحوّلت غرفة التشريح إلى غرفة عمليات عسكرية محاطة بالحراسة المشدّدة.

استدعى الكيان الصهيوني كلّ العلماء والخبراء في مختلف المجالات لإعانته على تشريح جسد غزةّ، وفكّ كل الطلاسم والغموض الذي يتشكل منه هذا الجسد للوصول إلى نتائج عسكرية أو سياسية حاسمة تساعده على حسم المعركة الدائرة بوحشية ودموية في غزة.

الإشكالية التي واجهت هؤلاء العباقرة من العلماء خلال عملية التشريح هو لماذا لا يموت جسد غزة مع أنه احترق تماما بوابل النيران والقذائف المتفجرة وتمزق إلى أشلاء؟ هناك نبض وحرارة وأسرار في هذا الجسد يتطلب معرفتها بأقصى سرعة حتى تعلن الوفاة وتحقيق الانتصار.

وقبل بدء عملية التشريح وُضِع تقريرٌ تمهيدي مفصل عن الحالة موضوع البحث والدراسة والاكتشاف، فقال التقرير: إن غزة تعرضت لأربع حروب طاحنات ساحقات، ونزلت فوق رأسها آلاف الأطنان من القنابل، وحوصرت أكثر من 20 عاما لكي تختنق وتختفي جوعا وفقرا من الوجود، وهي منذ زمن طويل تحوّلت إلى ساحة تجارب وتدريبات عسكرية وعلمية حول موت البشر الجماعي وتحويل أجسادهم إلى شظايا، ومع كل ذلك ما زالت غزة تنهض من رمادها وتقاوم، تحيا بعد كل موت وتزداد بأسا في الحياة، فلا بد من الوصول إلى نظرية في سبيل التجريد والتشخيص والخطة، نسميها نظرية غزة.

استدعت إسرائيل إلى غرفة التشريح كبار علماء التشريح في العالم، وعلماء الأعصاب والدماغ والأنسجة، علماء الآثار والأطباء في مختلف التخصصات، علماء النفس، علماء التصوير العياني، وعلماء الدراسات الفنية والمجهرية والبيولوجية، خبراء عسكريون وفلاسفة، علماء اللاهوت والحاخاميون ومهندسون، وحتى علماء الأرواح والمشعوذين، واستعانوا بما كتبه أبو قراط الذي لقب باسم أبو الطب ومؤسس علم التشريح البشري، وبكل نظريات وخبرات علماء التشريح في العصر الحديث، واستعانوا في عملهم وتقنياتهم بكتاب التشريح النازي الذي يعود تاريخه إلى منتصف القرن الماضي، والذي يظهر الجسد طبقة إثر طبقة والذي يسمى الأطلس أو الدليل للتشريح الطبوغرافي والجراحي للوصول إلى حقائق الموت، فهو يصور التفاصيل الدقيقة للجلد والعضلات والأوتار والأعصاب والأحشاء والعظام، وتكمن أهميته في أنه يميز أجساد المحروقين والمعدومين والجرائم الإنسانية الكبيرة، وأصبح مرجعا لأغراض الأبحاث والتدريس، وحتى أصبح ملهما للفنانين لما يحتويه من رسوم لأجساد البشر بحيث تحوّلت إلى قطع فنية رائعة في المجتمع الأوروبي، واستفاد من هذا الأطلس الخبراء العسكريون ومصانع الأسلحة والمتفجرات حيث ساهم في معرفة واختراع وسائل للقتل والفتك والإبادة، واعتبارها جزءا من الأخلاق والتطور والنهضة والتنوير في العالم الاستعماري.

عملية التشريح لجسد غزة استغرقت وقتا طويلا مضنيا مقلقا ومرعبا في ذات الوقت، ووصل إلى نتائج تقول: أن جسد غزة ما زال حيا رغم أنه مقطع وممزق، ممرات وفواصل وأسلاك، الوريد الأيمن لا يستطيع أن يتواصل مع الوريد الأيسر، وفي داخل كل منطقة جسدية حواجز وكتل وأورام تشبه المستوطنات، جسد مقسم إلى أقسام وحجرات وزنازين، وحاولت غزة أن تتصرف بنصف جسد او ربع جسد، لكن هناك إشارات حمراء وبقع حيوية، تأتي الإشارات من أماكن قريبة، وبعد التتبع لها تبين أنها قادمة من الضفة الغربية المحتلة ومن القدس، جسد يتواصل روحيا مع أجزاء أخرى، هوية روحية لا تموت بموت الجسد.

2-تقرير تشريح جسد غزة:

وقال التقرير: إن جسد غزة محطم ومدمر، كسور عميقة في الجمجمة ونزيف لا يتوقف في الأعضاء الداخلية، القلب توقف عدة مرات لكنه عاد للنبض مرة أخرى، الكفوف خشنة كأنها كانت تمسك فأسا أو حجرا أو بندقية، هناك دماء تضخّ في جسد غزة، وهذا الجسد أكثر من جسد، دماء حارة نقية تأتي من جنين ونابلس وأريحا والقدس والخليل واللد والرملة وأماكن أخرى، آثار قيود مشددة تظهر على اليدين والقدمين، وبقايا ثلج يذوب شيئا فشيئا كأنه كان محتجزا في ثلاجة باردة، جسد متيبس كأنه كان مطمورا تحت أكوامٍ من الباطون والحجارة، وتظهر على الجلد آثار تعذيب وطفحات كثيرة من القهر تنفجر واحدة تلو الواحدة، ولوحظ علامات اختناق على الرقبة، أنفاس متقطعة كأنه كان يحاول أن يعبر من جدار الى جدار، ومن سجن إلى سجن، ومن حاجز إلى حاجز، يقفز بين تجمعات ومعازل ضيقة، يتساقط جسده شيئا فشيئا فيحمل جثته ويحتمي بالمطلق والتاريخ والماهية المتحولة.

وقال التقرير: هذا الجسد الذي أمامنا لا نستطيع الهيمنة عليه والتحكم به، تظهر عملية اتصالات في الخلايا العصبية، تتواصل مع بعضها البعض، وتبين أن هناك ناقلات عصبية لنقل الإشارات الصادرة إلى الخلايا العصبية المجاورة، تولد نبضات وانتفاضات وهبات وحركات وهوية روحية غير مرئية ومقاومة، عيناه فيهما ضوء ولمعان كأنه يرانا ويراقبنا ويخترق ملامحنا، يرى السكاكين والمناشير والسيوف الحديدية وكل أدوات الذبح، يرى الفسفوري والكيماوي والانشطاري، عينان تعيشان في مجزرة، عينان مرعبتان لا تنطفئان ولا ترتجفان، تبصران أبعد مما نبصر، وأبعد مما تتصوره المخيلة.

واجه المشرحون مشاكل وغموض في تفسير الإشارات في دماغ غزة، يوجد في الدماغ مجموعة معقدة للغاية من الاتصالات والمطالب، وهناك أصوات تتطلب تفسيرا عن العلاقة بين الروح والجسد، الشعور، الوعي، الذاكرة الجماعية، الإدراك، التفكير، جميعها ما زالت موجودة وناشطة رغم تدمير الجسد، وتكاد تكون روح غزة مصدر الصمود والعقل والحياة والإنسانية، روح غزة جعلت هذا الجسد حيويا مما يساعده على البقاء والحركة الدائمة، وعاد المشرحون إلى كتاب أفلاطون لتفسير هذا الغموض والذي قال: رغم موت الأجساد فإن الروح تولد من جديد باستمرار في أجساد جديدة، أجيال أخرى تتناسخ في الأجساد الراحلة، وهذه هي الإرادة التي تصنع الشجاعة والمثابرة والرغبة والطموحات والسعي إلى الكرامة والحرية، وهذا ما لم تستطِع الصواريخ والقنابل أن تقضي عليه.

التقرير كشف أن جسد غزة فيه صوت جماعي لشعب كبير، وإنه ليس فردا أو عينة يمكن السيطرة عليها، فالجسد له أجساد أخرى، فاستعان المشرحون مرة أخرى بما قاله أبيقور: لا علاقة للموت بنا عندما نكون موجودين، فلا زال هناك أنفاس في هذا الجسد، أنفاس طائرة، فلا يؤدي فناء الجسد إلى فناء اليقين والإيمان، قوة أخرى لا تموت هي قوة الحق، وهي قوة ساحقة لها صوت بشري، فلا يفيد هذه الغارات والضربات من الجو والبر والبحر، ولا تفيد عمليات الطمس والامّحاء والاستبدال والاستئصال والتهجير، وكما قال الفيلسوف نيتشة إن إرادة القوة للجسد يحوله هو ذاته إلى جسد أعلى ويخلق الإنسان الأعلى، فالجسد هو الوجود المادي الظاهر، لكن هناك ما هو باطن ومختفي، فهذا الجسد هو الإفصاح عن الحياة القادمة، وسيظل في علاقة حميمة لأنهما يشتركان في الصيرورة والمصير.

 

3-إشكالية التقرير العام فلسفيا ودينيا وسياسيا ونتائجه:

المشرحون في معهد الطب العدلي في أبو كبير وأمام كل التعقيدات التي واجهوها حاولوا إجراء تشريح فلسفي فاستعانوا برواية الطاعون للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، والذي قال: إن ثنائية الحياة والموت ليست ثنائية قابلة للتجزيء على مستوى الوجود، بل وعلى مستوى التفكير، فالتفكير في الموت هو تفكير في الحياة أيضا، ولهذا فالتشريح الفيزيائي لجسد غزة لم يصل إلى نتيجة، ربما نحتاج إلى تشريح توراتي حتى نعطي موت الآخرين غطاءً من القدسية، ولا بد في هذه الحالة أن نقرأ وصايا الرب اليهودي المحارب في العهد القديم وهو يقول: هكذا يقول رب الجنود الآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له ولا تعف عنهم، بل اقتل رجل وامرأة طفلا ورضيعا، بقرا وغنما جملا وحمارا.

المشرحون لم يصلوا إلى نتيجة، وفي نهاية التقرير قالوا نحن بحاجة إلى تشريح سياسي، هناك حقوق قومية ووطنية لا نستطيع تشخيصها وتحليلها من خلال هذا الاجتياح الجراحي لجسد غزة، ولا تستطيع القوى العسكرية المميتة أن تقضي عليها، ولا تستطيع تقليص الفضاء الزماني والمكاني للوطن إلى مدينة مغلقة، الحقوق السياسية والوطنية لا تقطع شقفة شقفة كما يحدث في غزة، إنها عابرة للموت وللأحزمة النارية والحدود الجغرافية المصطنعة، وحتى نخرج بنتائج عملية وتحليل لهذا الجسد الذي لا يموت، لا بد من تحليل للأحياء الذين لم يموتوا لإيجاد حل لهذه الثنائية المتبادلة.